في سلسلة مقابلات أجراها بعد إطلاق كتابه الجديد بعنوان «اليورو: كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا»، يشرح عالم الاقتصاد الأميركي ونائب رئيس البنك الدولي سابقاً جوزف ستيغليتز أسس فرضيته، ومفادها أن مشروع العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، سيفشل عمّا قريب إذا استمر في مساره الحالي، وأنه يعاني من شوائب كثيرة منذ بداياته.حجّة ستيغليتز هي أن العملة الموحدة أتت قبل الوحدة السياسية الكافية بين الدول الأوروبية، لا بل كمحفّز إضافي مفترض للوحدة السياسية. لكن المشكلة، وفق الكاتب، هي أنه مع اتباع العملة الموحدة، أفقد الاتحادُ الأوروبي دولَه الأعضاء أهم أدوات التأقلم مع الصدمات الاقتصادية (مثل ركود عام 2008)، أي تحديد أسعار الفائدة وآليات تخفيض قيمة العملة، من دون إيجاد مؤسسات بديلة تصدر سندات مشتركة وتعزز الودائع المصرفية وتنشئ صندوقاً مشتركاً للبطالة على سبيل المثال، بما يضمن توزيع كلفة معالجة الاقتصادات الضعيفة على جميع الدول الأعضاء. وبدلاً من إنشاء هذه المؤسسات، فرض الاتحاد على الدول التي تواجه مصاعب اقتصادية أن تتحمل وزر الأزمة بنفسها، عبر إجبارها على اتباع سياسات تقشف تزيد من معدلات الضرائب وتخفض الأجور. إلا أن هذه السياسات فاقمت المشكلة، إذ ازداد معدل البطالة في اليونان ليبلغ 24 في المئة وتراجع دخلها الوطني بشكل ملحوظ، كما فاق معدل البطالة في إسبانيا الـ 20 في المئة.
يتوقع ستيغليتز أن نهاية اليورو ستأتي مع حدث سياسي «مدمّر» مثل «البريكست»، على حد قوله، مرجحاً أن يأتي هذا التهديد إما من اليونان وإسبانيا، أو من جراء الاستفتاء المزمع إجراؤه في إيطاليا في نهاية العام. يبرّر ستيغليتز رؤيته قائلاً إن الجميع يستشعر ارتياب المجتمعات الأوروبية المتزايد من اليورو ومن المشروع الأوروبي عموماً وقيمه الليبرالية. وفي مقابلة مع موقع «بزنس إنسايدر» الاثنين الماضي، قال ستيغليتز إنه «سيكون هناك إجماع على أن المشروع الأوروبي قد تعطّل»، والسؤال هو ما إذا كانت الدول الأعضاء ستقرر «التخلي عن اليورو والإبقاء على باقي أعمدة الاتحاد، أو رفض المشروع الأوروبي بمجمله على غرار بريطانيا».
يتوقع جوزف ستيغليتز أنّ نهاية اليورو ستأتي مع حدث سياسي مدمّر

الحل الأمثل، وفق الكاتب، هو في التخلي تماماً عن مشروع العملة الموحدة، أقله إلى حين بلوغ الوحدة السياسية وإنشاء المؤسسات اللازمة لنجاح مشروع كهذا. وفي حين يقرّ ستيغليتز بأن «طلاق» أوروبا مع اليورو لن يكون سهلاً، إلا أنه يجزم بأن التخلي عنه سيكون أفضل للدول الأوروبية على مستوى الأداء الاقتصادي. أما البديل الذي يطرحه فهو تقسيم اليورو إلى ثلاث أو أربع عملات أوروبية، أو حتى إلى «يورو شمالي» و«يورو جنوبي»، بطريقة تضمن تحرر دول الجنوب الأوروبي من قيود الاتحاد الأوروبي الصارمة التي تفرضها دول الشمال. ويبرر ستيغليتز هذا الطرح بقاعدة اقتصادية مفادها أن الفائض في الميزان التجاري لدى الدول الأوروبية الثرية، على غرار ألمانيا مثلاً، لا بد أن يقابله عجز ما لدى دول الجنوب، مثل اليونان وإيطاليا. وفي غياب آليات التحكم بالعملة، تضطر دول الجنوب إلى الخضوع لسياسات الاتحاد التي تجبرها على تحمل عبء الأزمة بالكامل، بدلاً من تحفيز اقتصاداتها والحد من البطالة عبر تخفيض قيمة العملة مثلاً.
ويرى ستيغليتز أن الفصل بين «اليورو الشمالي» و«اليورو الجنوبي» كفيل بالحد من التوترات بين الدول الداعمة لسياسات التقشف (كألمانيا) والدول الرافضة لها (كاليونان)، الأمر الذي يسمح بتخفيض حدة الاحتقان السياسي ضمن المنظومة الأوروبية من جهة، وبتحفيز الاقتصادات المتراجعة من جهة ثانية. والحجة الأخرى التي يقدمها الكاتب هي أن العملات الموحدة تنجح عادة في المناطق التي تتمتع بتجانس ما في الأنماط الاقتصادية والفلسفة السياسية، وهو أمر غير موجود بين دول الشمال والجنوب الأوروبية. ويقارن ستيغليتز أداء أوروبا الاقتصادي بأداء الولايات المتحدة (حيث بدأت الأزمة الاقتصادية في عام 2008)، قائلاً إن الولايات المتحدة تمكنت من تحقيق نتائج أفضل من أوروبا، مرجعاً الركود الأوروبي إلى مشاكل اليورو. كذلك، يذكّر ستيغليتز باتفاقية «النافتا» للقول إنه يمكن إنشاء منطقة تجارة حرة من دون الحاجة إلى عملة موحدة.
وفي الواقع، لا ينادي ستيغليتز بهدم المنظومة الأوروبية برمّتها، بل هو يقول إن أمامها خيارين: فإما أن تعزز الوحدة السياسية بين دولها الأعضاء، ما يعني في مرحلة ما زيادة الميزانية الأوروبية وبرامج الرعاية المشتركة واعتماد نظام موحد للتأمين على الودائع، لكي لا يقع وزر الأزمة الاقتصادية في اليونان مثلاً على المصارف اليونانية التي هي على وشك الانهيار فحسب، بل على مصارف ألمانيا الثرية أيضاً. أما الخيار الثاني فهو، كما سبق، التخلي عن العملة الموحدة كوسيلة للحد من التوتر السياسي بين الدول الأوروبية ولفسح المجال أمام الاقتصادات الضعيفة للتحسن.
تمرّ أزمة اليورو بعامها الثامن، أي أنها تكاد توازي عمر اليورو قبل الأزمة. وفي الواقع، لم يكمل اليورو عقده الأول قبل اندلاع أزمة الديون السيادية. ما يقوله ستيغليتز ليس جديداً تماماً، ولكنه قد يقلب النقاش العام حول مستقبل الاتحاد الأوروبي بسبب تزامنه مع مرحلة مصيرية ينبغي على أوروبا فيها إيجاد طريقة للتعامل مع «البريكست» والتهديدات الأمنية المتزايدة وأزمات الهوية داخل مجتمعاتها. ما يقترحه الكاتب هو، ببساطة، أن مناخ أوروبا السياسي في الوقت الحالي غير قادر على استيعاب إصلاحات ضرورية كالتي يوصي بها في كتابه، وبالتالي هو يقول إنه ينبغي على أوروبا أخذ خطوة إلى الوراء والتخلي عن مشروع اليورو، في الوقت الراهن على الأقل، إلى حين تبلور المؤسسات التي تضمن نجاحه. بعبارة أخرى، هو لا يدعو إلى التخلي عن المشروع الأوروبي، بل إلى التخلي عن سياسات سابقة لأوانها قد تسبب توترات كفيلة بهدم المنظومة بأكملها، وخصوصاً مع فقدان ثقة الشعوب بالقادة «الوسطيين» الداعمين للاتحاد وبفكرة الاتحاد نفسها، وهو ما يثبته استطلاع تلو الآخر في معظم البلدان الأوروبية.