أصبحت مواضيع التفاوت الاقتصادي بين الطبقات والدول، وجدوى التقشف، وسياسات نيوليبرالية أخرى في صلب محور الحديث الاقتصادي اليوم، ولم يعد الأمر مقتصراً فقط على يساريين «منفصلين عن الواقع» يحذرون من مخاطر العولمة النيوليبرالية.في هذا الإطار، ومن منطق أقرب إلى اليسار، يأتي المنتدى الاجتماعي الدولي، الذي انطلق عام 2001، في بورتو أليغري، كمساحة للقاء مجموعات وأحزاب وحركات نقابية ومفكرين وأكاديميين...، من حول العالم، مجتمعين على معاداة العولمة النيوليبرالية، ليتعرفوا مشكلات بعضهم، ومناقشة أطروحات مختلفة تتعلق بمخاطر العولمة النيوليبرالية.
لمّا اعتبر «البنك الدولي» أنّ 1.25 دولار في اليوم هي عتبة خطّ الفقر، ومعيارُ ما يتيح للمرء أن يعيش «بكرامة»، سمح للمدافعين عن العولمة النيوليبرالية الادعاء أنها حسّنت حياة الناس، وانتشلت الملايين من الفقر. بينما ينبري أحد اقتصاديي «البنك الدولي» (الأكثر واقعيةً)، لانت بريتشيت، للقول إنه «ربما من الأفضل تحديد خط الفقر عند 10 دولارات في اليوم». ولكن في حال اعتماد معيار الـ10 دولارات في اليوم، وبحسبة بسيطة سنجد أن 88% من سكان العالم يرزحون تحت هذا الخط. وبحسب دراسة قام بها معهد «ماكينزي العالمي» للاستشارات (المعروف بترويجه للسياسات النيوليبرالية) فإن 70% من سكان الدول المتقدمة شهدوا، خلال العقد الماضي، جموداً أو انخافضاً في دخولهم، متوقعاً استمرار ذلك خلال العقد المقبل.
تظهر الأرقام والمؤشرات والدراسات أن السياسات النيوليبرالية لم تنجح في خفض نسبة الفقر في العالم، بل عززتها وكرّستها بذريعة أن مشكلة الشعوب الفقيرة هي عدم دخولهم في الرأسمالية، أي إنهم فقراء لكونهم «مُقصَين» منها. غير أن نتيجة إدراجهم في النظام الرأسمالي، كانت نتائجها معاكسة لما وعد به منظرو النيوليبرالية ومؤسساتها. ما حدث في الواقع أنّ الشعوب الفقيرة أُدرجَت في عملية الإنتاج المعولمة، لتصبح جزءاً أساسياً من منظومة اقتصادية تعيد إنتاج فقرهم بشكل مستمر، للحفاظ على مصالح شركات تستغلهم بشتى الطرق لزيادة إنتاجها وما تجنيه من أرباح.
لم تنجح السياسات النيوليبرالية في خفض نسبة الفقر في العالم

لا تقتصر أخطار العولمة النيوليبرالية على ارتفاع نسب الفقر، فتأثيرها لا يقع في المجال الاقتصادي فحسب، بل يشارك في تشكيل المجالات الاجتماعية بما يتناسب مع مصالح رأس المال. كذلك إن ضررها يطاول البيئة، لذا نجد علاقة مباشرة، يشير إليها الناشطون في مجال حماية البيئة، بين تحقيق حماية البيئة والانتقال إلى نمط انتاج «ما بعد الرأسمالية»، ما يتيح اختصار الإشكالية بأن العولمة النيوليبرالية عمياء، بفطرتها، عن المصلحة العامة. ومن هنا يأتي دور نموذج «المنتدى الاجتماعي الدولي» في خلق روابط بين شتى المجالات الواقعة تحت تأثير العولمة النيوليبرالية، من الاقتصاد إلى البيئة إلى السياسة والظواهر الاجتماعية المتعلقة بها كالعنصرية والتفرقة الجندرية... إلخ، دون تجاهل أي منها على حساب أخرى، ومع ملاحظة خاصيّات المناطق التي تأتي منها المجموعات المشاركة، وتقبّل تناقضاتها (وتضارب مصالحها في كثير من الأحيان) بدل محوها، كما تفعل العولمة النيوليبرالية. ودون أن يهدف ذلك إلى تقبّل وتنمية العلاقات بين الثقافات والإثنيات وما إلى ذلك، بحسب نموذج «التعايش وتقبل الآخر» الليبرالي الذي يتجاهل، على سبيل المثال، طبيعة العلاقة بين الطبقة العاملة اللبنانية والطبقة العاملة المهاجرة من أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وسوريا وفلسطين، والتي هي علاقة طبقية عنصرية بامتياز، لا يمكن اختزالها بشعارات رنانة لخلق حالة مغايرة.
بحكم لامركزيته وعدم اتباعه أيديولوجية موحّدة تجمع جميع الأطراف المشاركة، تتعرض بنية «المنتدى الاجتماعي الدولي» للانتقاد من قبل البعض، لكونها تحدّ من قدرته على مقارعة العولمة النيوليبرالية، وطرح آليات ونماذج بديلة لها، إضافة إلى تجنب «المنتدى» إطلاق مواقف حيال أحداث سياسية واقتصادية عالمية (كالحرب على العراق مثلاً)، أو لتشديد المنظمين على أنه لا يمكن اعتبار «المنتدى» جهة سياسية. ولعل ذلك صحيح لناحية أن «المنتدى الاجتماعي الدولي»، والمنتديات الاجتماعية بفروعها حول العالم (التي انبثقت من المنتدى العالمي دون أن تتصل به وببعضها إدارياً)، ليس لديها فعالية حقيقية ومستدامة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إلا أنه يمكن اعتبار النموذج الذي تطرحه، ببدائيته، شكلاً بديلاً لهندسة البنى التحتية لعولمة مضادة للعولمة النيوليبرالية، أي تنظيم، أو حراك عالمي لامركزي، يستغل ما أنتجته العولمة النيوليبرالية من تقليص المسافات بين أقطاب العالم، وتسهيل تبادل المعلومات، دون أن يعتبرها النموذج الذي ينبغي بناء العولمة البديلة على أساسه. تكمن ضرورة البحث عن نماذج فعّالة لعولمة الصراع ضد العولمة النيوليبرالية في الاضمحلال الشديد لأدوار الدول والحكومات أمام المؤسسات الإقليمية والدولية والاتحادات والتحالفات والاتفاقيات والشركات المتعددة الجنسية، ما يربط جميع القضايا، من أزمة النفايات في لبنان إلى معضلة الضمان الصحي والاجتماعي، مروراً بقضايا العدالة الاجتماعية، والتفرقة العنصرية والإثنية والجندرية، بالساحة الدولية من خلال الشبكات التي تعمل لمصلحة رأس المال.