انشغل الإعلام العربي والعالمي ومعه دول بمتابعة ملابسات المحاولة الانقلابية في تركيا ليل الخميس – الجمعة الماضي، واستغرق المحللون في محاولة فهم الأسباب التي دعت فئة من الجيش التركي إلى محاولة الانقلاب على الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته، وعواقب العملية الانقلابية والنتائج التي ستفرزها. لا شك في أنّ عوامل عديدة اجتمعت كلها في إطار واحد، دفعت هذه الفئة العسكرية إلى الإقدام على خطوتها التي وُصفت بالمراهقة حيناً والمتسرعة حيناً آخر. كتب عديدون عن ممارسات أردوغان وحزبه في المجتمع التركي على مدى 13 عاماً من الحكم، منها المرتبط بالبعد الاجتماعي والبعد السياسي والحريات المقموعة، إضافة إلى الانقلاب على «الكمالية» ومحاولة اجتثاثها للعودة الى زمن السلطنة العثمانية.لكن تفاصيل محددة سبقت عملية الانقلاب الفاشلة بأيام تدعونا إلى الوقوف عندها. بداية شهر تموز الحالي قدّم مجموعة من نواب «حزب الشعب الجمهوري» طلباً إلى رئاسة البرلمان باستجواب الحكومة على خلفية تقارير صحافية ومعلومات طرحها المغرد التركي «فؤاد عوني» (النسخة التركية من «مجتهد» السعودي). مضمون هذه المعلومات يتحدث عن نشاط شركة للاستشارات العسكرية والأمنية تدعى «صادات» (SADAT) التي يقول عنها النائب عن حزب الشعب الجمهوري عن ولاية مرسين فكري ساغلار في رسالته الاستجوابية لرئيس الحكومة بن علي يلدريم أنها «أصبحت محط جدل ونقاش بالرأي العام التركي في الآونة الأخيرة بعد أن طرح المدون فؤاد عوني على حسابه على تويتر ادعاءات مثيرة حولها». النواب الذين قدّموا الطلب مطلع الشهر الحالي كانوا سيحصلون على موعد لجلسة الاستجواب في اليومين الماضيين، لكن الانقلاب أجّل الموعد (إن لم يكن قد نسفه) الى وقت غير معلوم.

ما هي شركة صادات؟

في موقعها على الإنترنت، تقدّم الشركة نفسها على أنها تأسست بدعم 64 ضابطاً وضابط صف قاموا بالخدمة في القوات المسلحة التركية. ويقول رئيسها الجنرال المتقاعد عدنان تنريفيردي إنّه تأثر بتجربة الغرب في إنشاء شركات الاستشارات الدفاعية وأراد أن تكون شركته النموذج الاسلامي الذي سيقدم المساعدة لكل الدول الاسلامية، مبدياً انزعاجه من نزعة «الهوية الصليبية» في تجربة حرب البوسنة عام 1995 كما شاهدها خلال خدمته في الجيش التركي في البوسنة، حسب وصفه. الجنرال الاسلامي كان محور حديث الصحافة التركية المعارضة العام الماضي مع بروز اتهامات لأردوغان والمحيطين به بدعم تنظيم «داعش». كانت شركة «صادات» قد نشرت على موقعها على الانترنت إعلاناً باللغة العربية تطلب فيه توظيف العشرات من الميكانيكيين ممن يجيدون اللغة العربية، للعمل في صيانة عربات «هامفي» وسيارات رباعية الدفع، الأمر الذي دفع الصحافة التركية حينها إلى اتهام الشركة بصيانة عربات «داعش» في الرقة، إضافة الى اتهامها بتقديم خدمات تدريب لعناصر ليبيين يتبعون لقوات «فجر ليبيا». وبعد تصاعد الضجة الاعلامية حول الإعلان، تم حذفه من موقع الشركة الالكتروني. هذه المعلومات التي تم تداولها العام الماضي، عادت إلى الظهور أواخر حزيران الماضي، مضافة الى معلومات جديدة نشرها المغرد «فؤاد عوني» على حسابه في تويتر يقول فيها إن الاستخبارات الألمانية والأميركية بصدد نشر تقارير استخبارية قريباً تثبت تورط أشخاص محيطين بأردوغان بتفجيرات «داعش» في أوروبا، بعد أن كانت روسيا قد نشرت أواخر 2015 بعض الأدلة التي تثبت علاقة أردوغان وبطانته بتنظيم «داعش»، من تجارة النفط الى تقديم المساعدة اللوجستية للتنظيم الارهابي. يقول عوني في تغريداته إنّ أردوغان تخوّف من هذه المعلومات، وقد شعر بالضيق، وأمر أحد مساعديه عبدالله تونكلي بإبلاغ عدنان تنريفيردي بالبقاء داخل تركيا وعدم السفر إلى الخارج لأنه لا يريد أن يُفضح ويزداد الواشون به في الغرب، كما حصل مع رجل الأعمال المقرّب منه رضا ضراب، الذي ألقي القبض عليه في الولايات المتحدة قبل أشهر، وتتم محاكمته بتهم غسل أموال واختلاس وتهرّب من الضرائب.
النائب التركي فكري ساغلار يروي في معرض حديثه عن «صادات» أنّ من بين الادعاءات التي كان من المفترض أن يجيب عليها رئيس الوزراء تتعلق بتدريبات «صادات» التي تم تجميدها مؤخراً بعد أن حصلت الأجهزة الاستخبارية الغربية على معلومات بشأن تلقّي عناصر تنظيم «داعش» التدريب على أيدي ضباط «صادات»، بينما واصلت منشآت الشركة السرية داخل تركيا عمليات التدريب داخل مخيمات. كذلك فإن ساغلار يقول إن بعض الشبان الذين يلتحقون بهذه المخيمات السرية ينتمون إلى القطاعات الشبابية لحزب «العدالة والتنمية»، وما يُعرف بـ«جمعية الغرف العثمانية» المقرّبة من الحزب الحاكم. النائب التركي ساغلار كان قد نبّه (قبل الانقلاب) إلى خطورة نشاط «صادات» في المستقبل، واعتبر نشاطاتها بمثابة ممهّدات لحرب أهلية محتملة في تركيا، محذراً من عمليات اغتيال وتخريب وحتى هجمات على مقاه داخل البلاد وخارجها لتحقيق أهداف مشبوهة، (وهذا ما تم تسجيله في اليومين الماضيين في مدن ملاطيا وأنطاكية وبعض أحياء اسطنبول، وقد بدأ يأخذ أبعاداً طائفية وقومية). من المؤكّد أنّ الشركة لم تحصل على أيّ ترخيص رسمي من أي وزارة أو مؤسسة حكومية للعمل في مجال التدريب والاستشارة العسكرية، ولكن يرى النائب ساغلار أن حكومة «العدالة والتنمية» منحت إذن عمل خاصاً «غير معلن» لـ«صادات» لكي تصبح بديلاً للقوات المسلحة التركية (وفق تصريحه قبل عملية الانقلاب الفاشلة).
وإذا ما عدنا الى ليلة الانقلاب، شاهد بعضنا لقطات بثتها القنوات التركية مباشرة على الهواء (لا سيما «سي أن أن تورك» و«أن تي في») ظهرت فيها مجموعات من الشبان بلباس مدني للحظات، يحملون بنادق أوتوماتيكية في شوارع إسطنبول، وقد سجّل تبادل إطلاق نار بين هذه المجموعات وقوات المنقلبين في شوارع أنقرة وإسطنبول، ولا يستبعد مصدر معارض أن يكون هؤلاء من الجنود الذين درّبتهم «صادات»، ومنهم من لبس سترات مكتوب عليها «شرطة» للتمويه وتحقيق الأهداف تحت عباءة القانون. كذلك يقول الصحافي والمحلل التركي المقيم في واشنطن إلهان تنير، إنّ أردوغان اعتقل منذ الجمعة الماضي 103 ضباط برتبة جنرال وأدميرال من أصل 358 جنرالاً يخدمون في القوات المسلحة في كل تركيا، أي ما نسبته 30% من جنرالات القوات المسلحة التركية أطاحهم أردوغان بعد 72 ساعة على الانقلاب الفاشل، مع الإشارة إلى أن كل جنرال من هؤلاء يتم توقيف الضباط ــ الأقل منه رتبة ــ من العاملين في فريقه. وهنا يلمح تنير إلى أنّه لا يستبعد أن يقوم أردوغان بتعيين ضباطه ورجاله الذين تدربوا في جيشه الموازي في مراكز الضباط المقالين، في ظل الحديث عن وصول موجة الإطاحة إلى كل من يعارضه في قطاعات التعليم والاعلام والصحافة، تماماً كما تمت إقالة ما يقارب 3000 قاضٍ من سلك القضاء بعد ساعات على انتهاء الانقلاب.
أياً تكن مسببات الانقلاب الذي فشل والعوامل التي دفعت مجموعة من الضباط الى تنفيذه، تبقى المعطيات والتفاصيل الحقيقية لدى الضباط المنقلبين أنفسهم. ونظراً إلى ظروف المرحلة التي تمرّ بها تركيا، من الواضح أنّ أحزاب المعارضة اختارت أن تخفض رأسها قليلاً كي تمرّ عاصفة الانقلاب الأردوغانية المضادة، فليس الوقت مناسباً لإصرار المعارضين على استكمال نبش ملفات فساد أردوغان وموبقاته، في ذروة موجة الانتقام والتصفية التي يمارسها ضد معارضيه وكل من يشتمّ في لحن قوله بعضاً من خطر. ودائماً بحسب أردوغان التهمة جاهزة: «الانتماء إلى التنظيم الموازي» (أي تنظيم الداعية فتح الله غولن)، وبالتالي الاعتقال وربما الإعدام غداً، مع حديث الاوساط الاردوغانية عن تعديل مرتقب للقانون لإعادة فرض عقوبة الإعدام في تركيا.