"تغاضينا كثيراً عن الجماعات المتطرفة في أوروبا"؛ تصريحٌ جاء على لسان رئيس الحكومة الفرنسية، مانويل فالس، في شهر آذار الماضي ضمن حوار إذاعي. ورغم أهمية هذا التصريح، فإنه مرَّ دون أي ردّ فعل من المتضررين كدول وأفراد من نتائج هذا التغاضي، ولم يبادر أحد إلى المطالبة بمراجعة التعاطي الأوروبي مع تلك الجماعات والكشف عن أسبابه ومحاسبة المسؤولين عنه، ومطالبة أوروبا باتخاذ موقف واضح وحاسم تجاه تلك الجماعات.فالس أضاف في نفس اللقاء: "إننا في أوروبا وفرنسا، أغلقنا أعيننا، وتغاضينا كثيراً عن تمدد السلفية المتطرفة في الأحياء التي كانت تعاني أصلاً من مزيج من تهريب المخدرات والجريمة التي وجد فيها الإسلاميون الراديكاليون فريسة سهلة لتوجيهه قطاعاً من شبابها نحو الانحراف والتردي في الإرهاب".
يلخص هذا الاعتراف بكل وضوح أن أوروبا مجتمعةً، وتحديداً دولها الكبرى التي تحمل إرثاً استعمارياً عريقاً وبعضها لا يزال مستمراً فيه بأشكالٍ مختلفة، تعاملت ولا تزال مع الجماعات المتطرفة الموجودة على أراضيها وفق أسس غير نزيهة، وكانت أجهزة الاستخبارات الأوروبية جميعها تعمل على نسج شبكات علاقات وتعاون وثيقة مع قادة وزعماء ورموز تلك الجماعات، كذلك قدمت كل التسهيلات الممكنة التي وفرت لهؤلاء بيئة مريحة ومساعدة للعمل على ترويج أفكارهم ونقلها إلى الشباب في الأحياء التي ذكرها فالس، بهدف تجنيدهم واستثمارهم في الدول والمناطق التي يريد أصحاب الإرث الاستعماري والفكر الاستخباري أن يحققوا فيها مكاسب ومصالح لدولهم على اختلاف أهداف هذه الدول ومشاريعها. ولسنا بحاجة إلى الكثير من البحث والتقصي لنكتشف أن قادة الجماعات المتطرفة ربطتهم، ولا تزال، علاقات وثيقة مع أجهزة الاستخبارات في أكثر من دولة أوروبية حتى قبل أن يطأوا أرضها، واستُقبلوا في أوروبا بالحفاوة والترحيب تحت مسميات كثيرة، كاللجوء وحقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، وغير ذلك من مستندات قانونية تستطيع الدولة الراعية وأجهزتها المختصة أن تطوِّعها بالشكل الذي يناسب كل حالة. كذلك فإنهم يخضعون لإجراءات حياة وحماية خاصة برعاية أجهزة الأمن في البلدان التي يعيشون فيها، ويمتلكون قدرة عجيبة وكبيرة على التحرك بحرية ودون معوقات إلى أي مكان في العالم، ويقومون بأي نشاط يرغبون به في المجال السياسي، الإعلامي، التعبوي، والعسكري في بعض الأحيان.
استطاع الأوروبيون في خلال العقود الست الماضية تحقيق مكاسب جمة وكثيرة باعتمادهم على تلك الجماعات في حروبهم التي أرادوها بالوكالة، وجرت تعبئة الجهاديين والمقاتلين وتزويدهم بالمال والسلاح، ودعمهم بالإعلام والسياسة وكل الطرق التي توفر لهم تحقيق الغايات التي كُلِّفوها، واستمرت هذه الحال عقوداً جعلت الأوروبي والأميركي يسترخي وينام في العسل، على اعتبار أنهم يمسكون بزمام أمور هذه الجماعات التي نشروها في كل البقاع التي يستهدفونها، أو قريباً منها، لتشكل تهديداً مباشراً وصريحاً دون أن يكون رسمياً وصادراً من أي دولة أوروبية أو غربية. إلا أن تلك الجماعات المتطرفة حين وجدت كل هذه المساحة من الحرية والدعم والتسهيلات وغير ذلك من ميزات التطور والقوة، تمكنت من صناعة ركائز قوة لديها في قلب القارة الأوروبية واستناداً إلى نفس العوامل التي وفرتها لهم دولها واجهزة استخباراتها، واستثمرت التغاضي الذي مارسه ساسة أوروبا لبناء عوامل القوة التي باتت في العقد الأخير تستخدم لتوجيه ضرباتٍ مؤلمة لهذه الدول في عقر دارها، كذلك باتت تشكل تهديداً كبيراً وجوهرياً للمجتمع الأوروبي وللقارة بأكملها، ليكتشف ساسة أوروبا متأخرين أنهم كانوا يقومون بتربية العقارب في جحورهم، دون دراية منهم أن عقيدة وطبع العقارب أنها لا تتعايش مع غير صنفها، وأنها ستلدغ كل من تصطدم به ما دام مختلفاً عنها.
الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، أكد في تصريحاته الأخيرة أنه سيضرب الإرهاب في عقر داره، مُسَلِّماً بأن عقر دار الإرهاب في العراق وسوريا حيث يحاول تنظيم "داعش" الإرهابي أن يعلن دولة الخلافة. ومرة أخرى، يتغاضى الرئيس هولاند، كعادة الساسة الأوروبيين، عن كل النشاطات والتسهيلات والدعم الذي تحصل عليه الجماعات المتطرفة في بلاده، وتحت حماية أجهزته الاستخبارية رغم الدم الفرنسي المسفوك بكثافة لافتة وطازجة على أراضيه، ومن قبل مواطنين فرنسيين مولداً وتربيةً وتنشئةً وتسهيلاً وتغاضياً وحريةً في الحركة سمحت للآلاف من هؤلاء بالذهاب إلى كل بؤر التوتر والإرهاب في العالم وممارسة إرهابهم والعودة إلى حضن من قام بتربيتهم ليلدغوه عند كل اصطدام.
مانويل فالس أضاف في "اعترافه" أنها حرب طويلة الأمد ضد "عدو داخلي وخارجي في الوقت نفسه، وأن هناك أحياءً كاملة تحت هيمنة السلفيين، ما يفرض علينا خططاً جديدة لوقف تمدد الخطر السلفي في أحيائنا، والراديكالية الزاحفة عليها، ويجب أن نُصارح مواطنينا بأن المشكلة تكمن في أن عدداً كبيراً من شبابنا تردى في مستنقع التطرف، وتبنى أطروحاته"، وهو كلامٌ يؤكد أن عقر دار الإرهاب يكمن في المناخات الآمنة التي وفرتها أوروبا للأفكار المتطرفة التي تولِّدُ بدورها إرهابيين تحت مُسمَّى جهاديين. تفتح أوروبا لهؤلاء بوابات الخروج نحو المناطق الساخنة التي يريدها الغرب أن تكون مقصداً لا رجعةَ منه، فتتحول للآلاف منهم إلى معسكرات تدريب، وتجنيد ضد الأوروبي في عقر داره لتكتمل دورة حياة العقارب من حيث بدأوا.