بريطانيا: اليمين موحدًٌ لإطاحة كوربن

  • 0
  • ض
  • ض

لندن | بعد ساعات على إعلان نتائج الاستفتاء البريطاني الأخير بشأن العلاقة مع أوروبا، كان فريق البليريين (نسبة إلى رئيس الوزراء الأسبق، توني بلير) في حزب العمال البريطاني المعارض ينفذون انقلاباً أُعدّ له بدقة قبل عدة أشهر بالتعاون مع وكالة علاقات عامة وإعلانات مشبوهة ومعروفة بعلاقاتها الوثيقة بتيار المحافظين الجدد.

الغاية العملياتية من الانقلاب كانت إزاحة زعيم الحزب الحالي، جيريمي كوربن، المنتخب من القواعد الحزبية قبل أشهر قليلة، بأغلبية ساحقة.
اتفق المنقلبون على تحميل جيريمي كوربن مسؤولية إخفاق حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي بحجة أنه "لم يكن مقنعاً كفاية لجمهور الحزب في المناطق الشمالية من البلاد" والتي انتهى معظمها إلى التصويت للخروج من الاتحاد. وهكذا، ومن دون مقدمات، تسابق عملاء بلير من وزراء حكومة الظل في قيادة الحزب إلى تقديم استقالاتهم، في ما بدا أنه سحب ثقة من شخص زعيم الحزب.
الخطوة التالية تمثلت بقيام مجموعة كبيرة من نواب الحزب في البرلمان البريطاني، وأغلبهم من تيار يمين الحزب، بإعلان مطالبة كوربن بالتنحي فوراً، وإلّا فمواجهة انتخابات جديدة وتمرد على مستوى قيادات الحزب في البرلمان والبلديات.
في موازاة ذلك، شنت صحيفة "فاينانشال تايمز" (وهي الناطقة شبه الرسمية باسم الرأسمالية البريطانية) أعنف هجوم لها على كوربن، ودعته إلى الاستقالة حفاظاً على حزب العمال في هذه الأوقات العصيبة التي تعيشها البلاد بعد الاستفتاء.
في اليوم التالي، وفي أثناء جلسة مفتوحة في مجلس العموم، شن ديفيد كاميرون (أفشل رئيس وزراء في تاريخ المملكة المتحدة والذي أجبر ذليلاً على الاستقالة، وها هو يصرّف الأعمال إلى حين التوافق على رئيس وزراء جديد)، هجوماً شخصياً على كوربن، وقال له بحدة: "لم لا ترحل؟ ارحل حبّاً في الله يا رجل!".
وترافق ذلك مع هجومٍ بدا منسَّقاً على الرجل في الصحافة البريطانية التي يمتلك معظمها ثري واحد، روبرت مردوخ، إلى جانب تسريب تقارير على مواقع الإنترنت عن ترشيح رئيسة جديدة للحزب، وعن إحساس كوربن بالضعف وتوجهه إلى الاستقالة. وفي خلفية كل ذلك، تقوم التلفزيونات البريطانية جميعها بتقديم تقارير منحازة عن كوربن في نشراتها الإخبارية وبرامجها السياسية.
ورغم تألق كوربن في إدارة نتائج تقرير شيلكوت الأخير بخصوص تورط حكومة حزب العمال في غزو العراق، وشجاعته الأدبية في تقديم اعتذار للبريطانيين ومن ثم للعراقيين، فإن أعنف انتقادات تلقاها كانت للأسف من طرف نواب حزب العمال نفسه، لا من المحافظين الذين اكتفى معظمهم بالابتسام وهم يسمعون أحد نواب العمال يوجّه سبابه إلى رئيس الحزب، في مشهد يتناقض أساساً مع الأخلاقيات البرلمانية وسلوك النواب المفترض. وقد اكتمل المشهد في نهاية الأسبوع بترشيح أنجيلا إيجل نفسها لمنصب رئاسة الحزب، وهي التي يطالب معظم أعضاء "العمال" في منطقتها الانتخابية بوقف تمثيلها النيابي لهم!
في ظل هذه الأجواء، يطرح السؤال الآتي نفسه: ما الذي يجمع أتباع بلير في يمين حزب العمال، إلى جانب وكالة علاقات عامة من خط المحافظين الجدد، وصحيفة ناطقة باسم الرأسمال، ورئيس وزراء حزب المحافظين الحاكم، وصحافة مردوخ والتلفزيونات العامة والخاصة، ومواقع إنترنت "مشبوهة" في جبهة واحدة وضمن جهود منسقة بدقة، في حرب إلغاء كهذه؟
ليس الهدف كوربن نفسه بالطبع، فالرجل يتمتع بشرعية القاعدة الحزبية دون جدال، وهو محترم كنائب عتيق، وتاريخه السياسي والمهني نزيه للغاية، وقد قدم نموذجاً نقيضاً لتوني بلير في إمكان تحقيق "السياسة اللاملوثة"، ويتفق الجميع في أنه مارس إلى اليوم توجهاً يجمع ولا يفرّق، وأعطى معارضيه في يمين الحزب أكثر بكثير من وزنهم الحقيقي كي يحافظ على وحدة الحزب. مشكلة كوربن الوحيدة أنه تحوّل رمزاً بدأت الطبقة العاملة بالالتفاف حوله.
الهدف الواضح للانقلاب، وما تلاه من هجوم يميني واسع النطاق هو الطبقة العاملة كلها: تلك الكتلة الصامتة الهائلة التي دفعت كل أثمان سياسات اليمين النيوليبرالية إلى اليوم، والتي وجدت، بعد تغييب، في كوربن صوتاً لها في مواجهة عصابة ثانوية إيتون النخبوية (كاميرون ورفاقه)، ولا سيما بعدما اندثر اليسار البريطاني، أو كاد. فليس مسموحاً أن يكون للطبقة العاملة حزب حقيقي (حتى ولو كان من تيار الوسط). وليس مسموحاً لحزب العمال البريطاني تحديداً أن يكون سوى حزب مسخ كما كان أيام توني بلير. وليس مسموحاً لرئيس الحزب أن يحاكم سلوك عضو الحزب وطفل اليمين المدلل توني بلير، الذي يكاد يكون سلوكه أقرب إلى الخيانة العظمى منه إلى سوء الإدارة.
يعلم اليسار البريطاني المغيّب اليوم أن كوربن يمثّل فرصته التاريخية التي لن تتكرر لإزاحة المحافظين من السلطة وتولي حصة معقولة من إدارة البلاد. ولعلّ سقوط كوربن يعني نهاية إمكانية وصول اليسار إلى السلطة ربما لثلاثين سنة مقبلة، على الأقل. وتعلم الطبقة العاملة تماماً أن سقوط كوربن هو خسارة لأي أمل لها في حدوث تغيير حقيقي في الأوضاع القائمة. وبعكس ما يرغب به توني بلير وجماعته، فإنّ الانقلاب زاد من شرعية كوربن فاندفع نحو مئة ألف من المواطنين خلال أيام قليلة للتسجيل في الحزب دعماً له، ما جعل من "العمال" اليوم أكبر حزب في البلاد من ناحية عدد الأعضاء (تجاوز ٦٠٠ ألف عضو مقارنة مثلاً بالمحافظين الـ ١٥٠ ألفاً).
حتى الآن، لا اليسار البريطاني، ولا الطبقة العاملة، في وارد التخلي عن كوربن، فيما الانقلابيون، ومن خلفهم اليمين كله، ليسوا في وارد السماح له بالاستمرار. في مناخ الفوضى الشاملة التي خلّفها استفتاء كاميرون، قد يعني ذلك أن أشياء أكثر من مجرد النقاش الديموقراطي قد تتطور على الأرض في خلال الأسابيع القليلة المقبلة، خصوصاً أن تلميحات بخصوص السلامة الشخصية لكوربن قد ترددت هنا وهناك. هل سنقرأ يوماً عنواناً عن "عشرة أيام هزت بريطانيا"؟ كل شيء ما زال مطروحاً، وكل الاحتمالات قائمة. الفتنة كانت نائمة، كاميرون أيقظها.

0 تعليق

التعليقات