يمثّل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يوماً تاريخياً لأوروبا، كما بالنسبة إلى غيرها. هو يوم نهاية أسطورة حصان «بروكسل العظمى»، التي تسمى بـ«الاتحاد الأوروبي». هذا الاتحاد، الذي كان ينمو خلال العقود الماضية ويبتلع الدول الأوروبية الواحدة تلو الأخرى، تلقى أخيراً أول لكمة «ثقيلة» من الناس. مرحلة النمو انتهت. الآن سيدخل الاتحاد في مرحلة انكماش. المشككون الأوروبيون في هولندا والدانمارك أعلنوا سلفاً أنهم سيضغطون نحو إجراء استفتاء مماثل أيضاً حول عضوية البلدين. وانطلاقاً من هنا، يمكن اعتبار يوم خروج بريطانيا بمثابة «بداية النهاية للاتحاد الأوروبي»، كما ستذكر كتب التاريخ في المستقبل.لكن لا تزال هناك أساطير عدة، إذ من يُسمون بالمحللين السياسيين (وأولئك أعدادهم لا تحصى) مشغولون بانتهاج أسلوب التحليل القائم على «القراءة مع فنجان قهوة»، فتصنف معظم تفسيراتهم وتحليلاتهم في خانة «الخطأ» أو «التحيّز».
وإنّ إحدى تلك الروايات المتداولة تقول إن معسكر الخروج البريطاني وطيف المتشككين بالاتحاد برمته يقودهم «رهاب الأجانب»، «رهاب الإسلام»، وكراهية كل ما ليس أوروبياً. بيد أن هذه الرواية تضع الحركات المتشككة في خانة «الفاشية» و«التطرف».
وهذه السردية، التي تنتشر في كامل أوروبا عبر بروكسل وموظفيها، وللأسف تقوم وسائل إعلام غير أوروبية عدة (حتى في الشرق الأوسط) باستنساخها، لا تخدم إلا نخب الاتحاد الأوروبي، وهي بطبيعة الحال سردية خاطئة، إذ يتألف المعسكر المناهض للاتحاد الأوروبي من أوروبيين وطنيين، محافظين، وحتى ليبراليين واشتراكيين. وهذا المعسكر، بكل تأكيد، يحوي كذلك الأمر جماعات متطرفة مجنونة، كما في أي معسكر سياسي آخر.
تبتعد القوى الرئيسية للمعسكر المناهض للاتحاد الأوروبي كل البعد عن التطرف الطائش ورهاب الأجانب. وفيما تتقبل الهجرة، ترفض في المقابل الهجرة الجماعية غير المنضبطة. ومن جهة أخرى، فإن «الإسلاموفوبيا»، أو ما يعرف بـ«رهاب وكراهية المسلمين»، يسبّبه تحديداً أولئك المتطرفون الذين يُظهرون راهناً سلوكاً وحشياً مروعاً في هذه الأيام في منطقة الشرق الأوسط. وبكل صراحة، إن أي نقاش جدي بين مؤيد للمقاومة في الشرق الأوسط ومتشكك عاقل بالتأكيد لن يفضي إلى خلاف.
إن سردية الحركات «البربرية، القبيحة والفاشية» المتشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي تجعل الناس يعتقدون أن الوضع الحالي في بروكسل هو تلقائياً الخيار الأفضل. وقد يكون الاتحاد الأوروبي مليئاً بالأخطاء، لكنه لا يزال أفضل من «المتطرفين الخطيرين» على شاكلة مارين لوبان، نايجل فاراج، فراوكه بتري، أو هاينز كريستيان شتراخه (رئيس حزب الأحرار النمسوي المعارض). إلا أن القوى التي تتبنى تلك الرواية نسيت تماماً أن معسكر المشككين بالاتحاد الأوروبي لم يرسل حتى الآن بندقية واحدة أو (يورو) واحداً إلى المتطرفين الذين يقاتلون في سوريا ضد الجيش السوري ويقتلون المدنيين. إنّ معسكر المشككين لم يرسل حتى اليوم غواصة نووية واحدة للجيش الإسرائيلي. كذلك فإن هذا المعسكر ليس مسؤولاً عن سياسات العقوبات المنتهجة ضد سوريا، وليس بداعمٍ للمملكة العربية السعودية. معسكر المشككين لم يقصف ليبيا. بل إن نخب الاتحاد الأوروبي وموظفيهم في الدول الأوروبية هي المسؤولة عن جميع الأمثلة المذكورة.
وبعبارة أخرى، يشكل الاتحاد الأوروبي لبلدان مثل سوريا أحد أخطر الأعداء. فإن ميركل، هولاند، وكاميرون، هم من السياسيين الداعمين للعنف والإرهاب. ولكن منذ أزمة الهجرة، صورت وسائل الإعلام الأوروبية، إلى جانب الشرق أوسطية منها، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على أنها «الأم تيريزا» في أوروبا.
من جهة أخرى، إن السياسين الألمان المتشككين تجاه الاتحاد الأوروبي، مثل ماركوس برتزل، رئيس حزب «البديل من أجل ألمانيا»، يطالبون برفع فوري للعقوبات المفروضة على سوريا ووقف الدعم للإرهاب في هذه البلاد. لكن برتزل يطالب كذلك الأمر بحماية الحدود الأوروبية، ولهذا السبب تصوره وسائل الإعلام السائدة في أوروبا وبعض وكالات الأنباء في الشرق الأوسط بأنه «شرير بارد القلب».
إن معسكر المتشككين يحتمل وجود العديد من الآراء المختلفة والمتناقضة أحياناً. ولكن في ما يتعلق ببعض المواقف المهمة، يظهر المتشككون في أوروبا تماسكاً ووحدة حول الآتي: ينبغي لأوروبا أن تكون القارة التي لا تدعم الإرهابيين، ينبغي أن تكون أوروبا القارة التي تعالج أزمة الهجرة ليس فقط عن طريق بناء الجدران والأسوار، ولكن من خلال إنهاء التدخل في بلدان أخرى والتسبب في إحداث موجات الهجرة هذه، وينبغي لأوروبا أيضاً أن توقف مع سياساتها العقابية تجاه دول أخرى. حتى إن معظم الحركات المتشككة تجاه الاتحاد الأوروبي تنتقد سياسات حلف شمال الاطلسي (الناتو) وتسعى إلى التخلي عن التحالف العسكري الغربي. وكل هذه الآراء تتعارض مع سياسات الاتحاد الأوروبي الأخيرة.
إن الحركات المتشككة تجاه الاتحاد الأوروبي تعلم أن الاتحاد، الذي يتعارض مع القيم الأوروبية، بحاجة لكثير من الإصلاحات. لقد أخضع الاتحاد أوروبا للسلطة الأميركية وحوّل القارة إلى كيان محتل سياسياً وأيديولوجياً، والمعسكر المؤيد للبقاء غير مستعد لتغيير ذلك، بل هو مرتاح في التبعية لأميركا.
وهذا بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط يعني أنه يمكنك التحدث والتفاوض، وحتى معانقة النخب في الاتحاد الأوروبي، إلا أن الأخيرة ستظل تنظر إليهم بدونية وستدعم أسوأ أعدائهم كالجماعات الوهابية والسلفية.
«أوروبا الجديدة»، أي أوروبا ما بعد الاتحاد الأوروبي، قد تصبح «أوروبا الحقيقية» أو «أوروبا الأوروبية» لتحل مكان «أوروبا الأميركية». سيجري إظهار ممثلي «أوروبا الجديدة» بشكل سيئ في الإعلام الغربي وحتى في الشرق الأوسط، لأنهم سيكونون صرحاء ولن ترتسم على وجوههم الابتسامة البريئة المزيفة مثل أنجيلا ميركل، لكنهم لن يدمروا شعوباً أخرى.
*مدير «المركز الألماني للدراسات الأوراسية»