لأنّ التاريخ قاس لا يرحم، لا بد أن يُدرج اسم ديفيد كاميرون في كتب التاريخ بوصفه صاحب الإخفاق الأكبر في تاريخ بريطانيا العظمى، وذلك بسبب الخطوة السياسية المليئة بقصر النظر وسوء التقدير، أي إجراء استفتاء حول العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. هو في ذلك تفوّق حتى على الإخفاقين الأشهر في التاريخ الحديث لرؤساء الوزارة البريطانيين: أنتوني إيدن الذي ورّط البلاد في "أزمة السويس" عام ١٩٥٦ والتي انتهت على نحو مذل، وكان بمثابة إسدال للستار على ما تبقى من إمبراطورية آفلة، وتوني بلير الذي خالف إرادة الجمهور البريطاني واندفع خلف جورج بوش في حربه الظالمة على العراق في ٢٠٠٣ والتي أنتجت مأساة تامة.النتيجة التي انتهى إليها الاستفتاء فتحت باب الفوضى السياسية في البلاد على مصراعيه: تتناحر الفصائل المتنافسة داخل حزب المحافظين الحاكم لتقديم مرشح يتسلم التراث المتفجر الذي تركه السيد كاميرون، بينما انقضّ أنصار توني بلير في يمين حزب العمال على القيادة اليسارية للحزب ممثلة بجيريمي كوربين في محاولة لإطاحته في ما قد يشبه انقلاباً أفريقياً، كذلك انزلقت مؤشرات الاقتصاد جميعها على نحو غير مسبوق. لكن أخطر ما أفرزه الاستفتاء على الإطلاق قد يكون أجواء الصدمة والانقسام الحاد التي دفعت مكونات المملكة المتحدة إلى طرح مسألة الاستقلال (كلّ لأسبابه) تحت غطاء ضمان البقاء في أجواء الاتحاد الأوروبي.
من شأن خطوة الاسكتلنديين المحتملة إنهاء المملكة المتحدة

وفيما تبدو فكرة إجراء استفتاء على الاستقلال في إيرلندا الشمالية ــ وحتى في جبل طارق ــ للالتحاق بالاتحاد الأوروبي وكأنها استحقاقات تاريخية مؤجلة كانت ستأتي يوماً ما، قبل أن تستدعى في لحظة تحوّل جذري حاد في الأجواء السياسية، فإن ما قد ينهي المملكة المتحدة نهائياً ككيان سياسي بعد نحو ثلاثمئة عام من التأسيس هو الخطوة التي يبدو الاسكتلنديون سيقدمون عليها في أي وقت من الآن، وهي الدعوة إلى استفتاء للاستقلال بهدف إقامة جمهورية تلتحق بالاتحاد الأوروبي. ويبدو أنّ هذا الاستفتاء سيكون هذه المرة حاسماً بالنظر إلى المزاج السائد، خصوصاً أنّ الاسكتلنديين صوّتوا بوضوح بفارق ٢٤ نقطة مئوية لمصلحة البقاء جزءاً من الاتحاد، واتفقت في ذلك كل المجالس المحلية من دون استثناء.
لم تُضيّع الوزيرة الأولى لاسكتلندا وزعيمة حزب الأغلبية (الحزب القومي الاسكتلندي)، نيكولا ستروجين، أي وقت بعد ظهور نتائج "الاستفتاء الأوروبي"، فتحدثت في مؤتمر صحافي عاجل عن أن الاسكتلنديين قد قالوا كلمتهم، وأن استفتاء الاستقلال مطروح الآن على الطاولة. بدا "الحزب القومي الاسكتلندي" أكثر مؤسسة سياسية متماسكة في بريطانيا، في وقت ضربت فيه الفوضى الشاملة كل المؤسسات الأخرى تقريباً. والفوضى تخدم الشجاع دوماً. ورغم أن مسؤولين في الاتحاد الأوروبي حاولوا الإشارة إلى صعوبة قبول عضوية اسكتلندا بسرعة في الاتحاد، فإن المراقبين متفقون على أن لا أحد سيتجرّأ على طرد خمسة ملايين أوروبي أصلاً من الاتحاد بينما هم حريصون على البقاء فيه.
القوميون الاسكتلنديون، ربما سيُقدِمون (إن هم ساروا قدماً في اتجاه الانفصال) على خطأ تاريخي لا يقل فداحة عن المغامرة التي قام بها "المحافظون" عبر إجراء الاستفتاء على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. فاسكتلندا كدولة مستقلة جغرافياً وذات مناخ صعب وسكان قليلين، لا تمتلك موارد كافية للحفاظ على مستوى الرفاهية الحالي للسكان، وثروتها من بترول بحر الشمال ستنفد خلال عقود قليلة، إن لم يكن خلال عقد واحد، وهي استراتيجياً منقطعة وبعيدة عن أوروبا، وبحاجة دوماً إلى علاقات مرور طيبة مع إنكلترا. ورغم الادعاءات التاريخية بأن إنكلترا استعمرت اسكتلندا وأن الاستقلال هو تصحيح لمسار التاريخ، فإن البحث العاقل سيظهر أن اسكتلندا كانت جزءاً لا يتجزّأ من بريطانيا (أي الكيان الذي جمع شعوباً متنوعة وجعل منها دولة أولى في الكوكب لمئات السنوات)، وأن مفهوم الأمة الاسكتلندية ما هو إلا وهم لم يوجد فعلياً إلا بتأثير الثورة الفرنسية وبعد قيام الاتحاد عام ١٧٠٧ بعقود، وأن العيش المشترك واللغة المشتركة والثقافة المشتركة قد خلقت شيئاً جديداً تماماً مقارنة بإقطاعات العصور الوسطى المظلمة.
آدم سميث منظّر الرأسمالية الإنكليزية الأول، ديفيد هيوم وجيمس ماكنتوش واضعا رواية التاريخ الانكليزي، جيمس ميل منظّر الإمبريالية البريطانية، وولتر سكوت راوي الأساطير الإنكليزية الأول، توماس كارلايل فيلسوف الشخصية الإنكليزية الأهم؛ كل هؤلاء، ومئات غيرهم من المنحدرين من اسكتلندا، كانوا جزءاً لا يتجزأ من تكوين الشخصية البريطانية، وليسوا ضحايا لمشروع إمبريالي.
الانكفاء إلى القوميات الشوفينية في اسكتلندا وغيرها عبر الفضاء الأوروبي ــ مع التأكيد على اختلاف المسألة الإيرلندية هنا ــ لن يكون حتماً في مصلحة الاسكتلنديين حتى وإن أصبحوا أوروبيين بشكل أو بآخر، ولا سيما أن الانقسامات الداخلية في اسكتلندا حول المذهب الديني، واللغة المحلية، والأصول، والمنابت، لن تجعل إدارة شؤون البلاد أمراً سهلاً. ولعلّ دوري الكرة المحلي في اسكتلندا شاهدٌ على تشظي الفسيفساء المتنافسة التي تتكون منها القومية الاسكتلندية الفخورة.
الاستراتيجيا ــ وهي ابنة الجغرافيا والتاريخ ــ تجعل من اسكتلندا في أفضل موقع ممكن على الإطلاق في إطار ما يسميها لينين "الدول المتعددة القومية"، ككندا وسويسرا والهند وجنوب أفريقيا، حيث قوميات ذات ثقافات متنوعة توحدها ثقافة مشتركة أكبر وتمنحها في الوقت ذاته فضائل اقتصاديات الحجم الكبير. المملكة المتحدة حينئذ خيار مثالي للتمسك به في مواجهة العولمة والشوفينية، كليهما، وهذه قضايا لا ينبغي أن تترك للديموقراطية السطحية لتقررها عبر الاستفتاءات ذات النفس الشعبوي. ألم تتعلموا من رهانات ديفيد كاميرون الخاطئة؟