وقف رئيس الوزراء الفاشل، ابن الطبقة البريطانية التي ما زالت تنفق من خيرات إمبراطورية بهتت منذ قرن، ديفيد كاميرون، وإلى جواره وقفت زوجته التي توحي ملامح وجهها بصدمة آتية، أمام ١٠ داونينغ ستريت، مقر الحكومة البريطانية، وبدأ يقرأ علينا بصوت متهدج من نص أعد سلفاً أنه يتقبل نتيجة الاستفتاء وأنه ليس من المناسب بعد خسارة معسكره الداعي إلى «البقاء» أن يستمر في السلطة وأنه سيتركنا في خلال ثلاثة أشهر. هكذا، بكل بساطة، سينسحب الرجل الذي قاد بريطانيا (الدولة العريقة وإحدى أهم اقتصادات العالم لآخر ست سنوات)، وسيتركنا لنلملم الخراب الذي سبّبه، بينما يمضي هو إلى تقاعد مريح، إلى حين أن يلتحق بمؤسسة صديقه، توني بلير، مستشاراً لمشيخات الخليج وبعض دكتاتوريي أفريقيا البائسين، وليتقاضى في الساعة ألف ضعف ما كان يتقاضاه حتى الآن.السيد كاميرون لم يقد بريطانيا إلى انقسام مريع فحسب، بل إن فشله المتراكم في إدارة ملفات البلاد أدى في النهاية إلى فقدان سيطرة غير مسبوقة على مصير المملكة المتحدة ذاتها. وهكذا صنع الرجل الفرصة التاريخية التي انتظرها الوطنيون الاسكتلنديون لعدة قرون، وهم سيدعون إلى استفتاء جديد (سيكون أخيراً) على الاستقلال عن المملكة، بالنظر إلى التأييد الحاسم الذي أبدته كل فئات الشعب الاسكتلندي للبقاء في الاتحاد الأوروبي. لا، بل إن الإيرلنديين الشماليين، الذين خبا صوت الوحدة مع إيرلندا الأم عندهم منذ عقود، وجدوا أنفسهم مجبرين بحكم التصويت الصريح على البقاء في الاتحاد الأوروبي لإعلان استفتاء مماثل، سينتهي حتماً، إلى إعادة توحيد إيرلندا التاريخية. لقد قدّم كاميرون من أجل إيرلندا في ٢٠١٦ أكثر مما قدم لها كونيللي ورفاقه في ثورتهم الخاسرة في ١٩١٦. ليس ذلك فحسب، بل أقسم إنني سمعت عن بعض الجمهوريين الإنكليز الذين شرعوا في الإعداد لاستفتاء على النظام الملكي ذاته، مقترحين (إن وافق الشعب على إنهاء نظام الحكم الذي لا يليق إلا بمتحف مدام توسو) أن ينتظروا فقط وفاة الملكة طبيعياً، كي لا يذكر التاريخ أن الجمهورية قامت على الدماء.
سيتركنا ديفيد كاميرون نلملم الخراب الذي سبّبه

واستيقظ ملايين المهاجرين في أرجاء المملكة المتجهة إلى التلاشي على صوت نيجل فاراج المزعج، وهو يقول للأمة (إذا جاز التعبير) إن نتيجة الاستفتاء انتصار للأشخاص «الحقيقيين»، ليكتشف غير الحقيقيين منا، مليون أوروبي يسكنون العاصمة لندن فقط، أنهم عملياً بلا مستقبل.
بالطبع الخراب الذي تركه السيد كاميرون لم يكن مقتصراً على المشهد السياسي، فقد تراجع الجنيه خلال أقل من ست ساعات من بدء فرز نتائج الاستفتاء بأكثر من ١٠٪ مقابل الدولار، وهو أمر لم يحدث في التاريخ، وانحدرت قيمته إلى مستويات الـ١٩٨٥، مرحلة التدمير الممنهج للاقتصاد على أيدي الليبراليين الأوغاد. ولم تكد بورصات آسيا تفتح حتى تخلص المستثمرون من أسهم الشركات البريطانية الكبرى بخسارة لتقليل خسائر مستقبلية أفدح، وفقدت بورصة لندن ١٢٠ بليون جنيه من قيمتها عند بدء التداول، في أجواء تذكر بالفوضى التي سادت الأسواق إبان أزمة ٢٠٠٨، واضطر بنك إنكلترا إلى إصدار بيان مذل يناشد فيه الجميع عدم فقدان الثقة بالاقتصاد البريطاني، لتردّ عليه بعد دقائق شركة التصنيف المالي العالمي الأشهر بالشروع في خفض تصنيف البلاد الائتماني من درجة الـ AAA الحالية الممتازة.
ذلك كله، على سُوئه، قد يبدو شأناً داخلياً لجزيرة صغيرة نسبياً تعيش على هامش قارة عجوز، وانعكاسات ــ متوقعة إلى حد ما ــ لأداء سلطة احترفت الفشل، لكنها لا تمسّ على نحو جذري بصحة الاقتصاد العالمي أو حتى سوية الرأسمالية البريطانية ذاتها على المدى المتوسط أو الطويل، ولا سيما أن الخروج الفعلي من الاتحاد بحاجة إلى تصديق البرلمان ومفاوضات مطولة وإجراءات قد تستغرق سنوات، وأنه ليس سراً أن البنوك والمؤسسات المالية قد تحوطت للأمر الذي كان أشبه بسرد أحداث موت معلن ــ على نسق رواية ماركيز الشهيرة. لكن تقويم هذه الزوبعة إن حصل في الإطار العالمي الأوسع سينتهي (وفق تصورنا بالطبع) إلى اعتبارها نقطة صفرٍ لإطلاق موجة ركود اقتصادي عالمي عارم أشبه ما تكون بأزمة ١٩٢٩ وعقد الثلاثينيات المفقود الذي أدى في ما أدى إليه إلى تهيئة المناخ المناسب لنشوب الحرب العالمية الثانية وذبح ملايين البشر قرابين لرأس المال.
ترتكز بنية الاقتصاد الرأسمالي المعولم هذه الأيام على أداء أكبر ثلاث مجموعات اقتصادية فيه: الاتحاد الأوروبي، والصين، والولايات المتحدة. يصبح دخول الكوكب في موجة ركود عالمية أمراً شبه محسوم عندما تصاب هذه الاقتصادات الثلاثة معاً بالإعياء في وقت واحد، وهو بالضبط ما أطلق شعلته السيد كاميرون:
*خروج بريطانيا من الاتحاد سيؤدي إلى انكماش الاقتصاد البريطاني ذاته بـ ٣،٦٪ سنوياً وفق تخمينات وزارة المالية، وستتعمق أزمة البطالة بإضافة أكثر من نصف مليون من العاطلين من العمل، وستهبط قيمة العملة بمعدل ١٢٪ مقارنة بما قبل أسبوع من الاستفتاء، مع توقع معهد الدراسات المالية بتوسع الفجوة في الميزانية العامة من ٢٠ إلى ٤٠ بليون جنيه. سيعاني الاقتصاد البريطاني لأنه بعد مارغريت تاتشر وإعادة الهيكلة الاقتصادية التي جرت في الثمانينيات أصبحت القيمة المضافة الوحيدة تقريباً للاقتصاد البريطاني مستمدة ليس من إنتاج السلع والخدمات وبيعها للداخل والخارج، بل من توفير الخدمات البنكية وقنوات الاستثمار لرأس المال الأجنبي (دون كبير تدقيق في مصادره)، ومن استيفاء الرسوم والفوائد والريع عن ذلك، ولهذا فإن استمرار تدفق هذا المصدر الحيوي للدخل معتمد عملياً على فتح الحدود وتسهيل تنقل الأفراد والأموال، وقبول الأصدقاء في أوروبا والعالم من لندن لعب دور بنكهم الأوثق.
بعد «البريكست»، شريان الحياة هذا معرّض لخطر داهم، وهو ما يعني تدفق الأموال في الاتجاه الآخر والتضخم وارتفاع تكلفة أنشطة الأعمال في البلاد. هذا كله ستقابله، دون شك، تأثيرات سلبية موازية على الاقتصادات الأوروبية التي هي أصلاً لم تتعاف بعد أزمة الـ ٢٠٠٨ والانقلاب الأوكراني، وكثير منها مفلس فعلياً أو على وشك الافلاس.
*الصين أيضاً، كما الاتحاد الأوروبي، تعيش تباطؤاً اقتصادياً غير معهود، إذ تراجع نمو الدخل القومي إلى أقل من ٧٪ مقارنة بمعدلات ١٢-١٧٪ في العقد الماضي وضَعُف اليوان بسبب عمليات تحويل النقد المستمرة إلى الدولارات الأميركية، وأيضاً سُجّل تراجع في الاحتياطيات القومية من الدولار، وفوق ذلك كله يلاحظ الارتباك الذي يشوب إجراءات الحكومة الصينية بشأن التعامل مع الركود وتزامن ذلك مع تراجع النمو في مساهمة رأس المال الخاص في الاقتصاد الصيني إلى مستويات دنيا قياسية.
*العمود الثالث للاقتصاد العالمي، الأميركي، يثير القلق بدوره. فالنمو السنوي المسجل عند ٢٪ سنوياً غير كاف لدفع الاقتصاد إلى التعافي من مفاعيل أزمة ٢٠٠٨ في وقت تعاني فيه أسواق الاتحاد الأوروبي والصين من الأزمة، وتعيش البلاد سنة انتخابات وعدم استقرار سياسي بين إدارتين وأرقام بطالة مرتفعة ترتبط عادة بأوقات الركود وتراجعاً ملموساً في مربحية الشركات الأميركية وضعفاً لمعدلات الإنتاج وتراجعاً في الاستثمار، وهي مؤشرات دفعت مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تأجيل مستمر في رفع أسعار الفائدة، لكنه بالتأكيد سيصل إلى نقطة يضطر فيها إلى رفع السعر، وعندها ستكون الظروف الموضوعية جميعها، في ظل مشاكل الاتحاد الأوروبي والصين، مهيأة للانفجار الكبير، وسوف تتعالى موجات تسونامي الركود الاقتصادي عبر الأسواق العالمية الأصغر جميعها.
هذا الخطر المحتم لحدوث الأسوأ، سبّبه سياسي نزقٌ ضيّق الأفق، أراد أن يحرز نقاطاً في انتخابات عامة من خلال الوعد بإجراء استفتاء يرضى من خلاله جمهور حزب منافس، فكان أن انتهى إلى أن دمر المملكة والاتحاد، وأخذ العالم كله إلى بوابة ركود عالمي جديد. «بريكست» ستكون بوابة الجحيم يا سيد كاميرون. اللعنة!