بينما يترقب الجميع، يساراً ويميناً، في الجزيرة البريطانية وعبر ضفتي الأطلسي نتائج الاستفتاء، يثير الإنتباه نجاح المنظومة (المهيمنة على مفاصل السلطة) الساحق في فرض ثنائية الاختيار بين البقاء أو المغادرة على الجميع، ليس أقلهم اليسار البريطاني الهامشي الذي اندفع للاصطفاف بين أحد طرفي الثنائية من دون إعمال حقيقي لأدوات التحليل النقدي (الطبقي) للموقف أخذاً بعين الاعتبار الصورة الكلية للصراع بشأن الإتحاد الأوروبي كمنظومة حكم عابرة للحدود القومية. فجاءت مواقفه تكاد لا تختلف عن مواقف الأحزاب الأخرى التي، من دون استثناء تقريباً، تخضع في عملها الأيديولوجي لآليات التفكير (البرجوازي) حيث المنهج تفتيت الأحداث وأخذها إلى صعيد الجزئيات المحلية والحسابات الضيقة والمظاهر السطحية وإبداعات الأفراد ــ النجوم.لقد فشل اليسار في التصدي لمهمته الأولى في مثل هذه الأحداث الصاخبة، وهي المهمة التي تفترض منه أن يرتقي بالتحليل من خلال الأدوات النقدية العلمية التي يوفرها منهج الصراع الطبقي ودياليكتيك المادية ليحقق ربطها بالسياقات الأوسع في إطار مفاعيل هيمنة الإمبراطورية الرأسمالية المعولمة التي ــ شئنا أم أبينا ــ تجثم على صدر هذا الكوكب وتفرض إيقاعات منظورة وغير منظورة على وجهة تشكل الأحداث التاريخية فيه، ولا سيما في واحدة من عقده الرئيسة (أوروبا الغربية). وهكذا غابت ــ أو غُيِّبت ــ عن المناقشات أساسيات تتعلق بنشوء الاتحاد الأوروبي وغاياته الأصلية ودوره في تكريس سيطرة النخبة الرأسمالية على القارة وتموضعه إستراتيجياً في إطار المجهود (الحربي) للإمبراطورية المعولمة.
من حيث المبدأ، لا بد من التذكير بأن المفهوم النظري لتشكل فكرة التوحد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية (كسوق أوروبية مشتركة قبل الوصول إلى صيغة الاتحاد الحالي) ليس له أي علاقة تذكر بنضج مفترض للساسة الأوروبيين وخصوصاً في باريس وبرلين بعد ما جرّته مآسي الحرب على الطرفين، وذلك رغم أن معظم الأدبيات تجعل منه مشروعاً فرنسياً ــ ألمانياً يستهدف منع الحروب المستقبلية في أوروبا. فالأمر قد لا يعدو كونه مشروعاً أميركياً شديد البساطة والمباشرة (وفق التصور الإمبراطوري النزعة، المغرق في تجربته الذاتية المتسمة غالباً بالسطحية وثنائيات الأضداد عن شكل العالم)، يسعى إلى بناء أوروبا غربية "متأمركة"، كساحة نفوذ وقلعة متقدمة في مواجهة الحرب الحتمية مع الإتحاد السوفياتي (النموذج النظري النقيض للرأسمالية ذلك الحين)، رغم كل التحفظات. لقد اضطر الحاكم العسكري الأميركي في ١٩٤٥ إلى التهديد بوقف تدفق المساعدات من برنامج مارشال لإجبار الفرنسيين، العنيدين، والألمان، المصدومين، على قبول صيغة توحد أوروبي، تضمن سلاماً مستقراً للمنطقة وتحقق لها الإزدهار على المدى الطويل في مواجهة طموحات سوفياتية أو شيوعية محتملة.
ولنبقى أوفياء لمبدأ الدياليكتيك، فنفترض أن الاتحاد الأوروبي قد تجاوز مكونات الصراع التي أنجزته وأنه اتخذ مساراً مستقلاً في تطور الأحداث وأصبح ضمانة لتحقيق السلام بين أمم القارة المتصارعة منذ نهاية الحرب، فإن وقائع الأحداث ــ بعكس الإنطباع السائد ــ تشير إلى أن الإتحاد الأوروبي كان أداة جذرية في الحرب الأميركية (غير المعلنة) ضد المحور الروسي، وهو الذي أشعل نيران الحرب الأهلية التي أطاحت يوغسلافيا السابقة ودعم بسرعة لافتة إستقلال الجمهوريات المفتتة التي أنتجتها هذه الحرب الدموية، مثيراً بذلك أسوأ صراع عسكري ودبلوماسي في القارة منذ ١٩٤٥. وها هي الأزمة الأوكرانية الحالية تكرار ممل لمشروع إسقاط يوغسلافيا، فالإتحاد كان بمثابة محامي الدفاع الناطق باسم الأميركي وهو تولى دفع اليمين الأوكراني إلى القيام بإنقلابه الذي كان حتماً سيستفز روسيا ويدخل أوروبا في مناخ استقطاب عسكري وحصارات اقتصادية انعكست سلباً على الطرفين فحسب من دون أن تمس اقتصاد اليانكي بشعرة.
كان الأجدر باليسار ألا يسقط في خدعة الديموقراطية السطحية المباشرة

وقد سقط القناع عن وجه الاتحاد البشع بوصفه محض أداة لخدمة السلوك الإمبراطوري وغير قادرة على أي أداء مستقل، وذلك خلال الأزمة الليبية الأخيرة عندما نفذ الأوروبيون تعاوناً منقطع النظير في ما بينهم لإسقاط حكم العقيد معمر القذافي وفق تعليمات أميركية، ما أنهى حالة مستديمة من الاستقرار الأمني استمرت لعقود على بوابتهم الجنوبية وأطلق وحش حروب عبثية لن تقوم بعدها لليبيا قيامة في المدى المنظور، وستؤدي دون شك إلى نشر عدم الإستقرار عبر الحدود إلى تونس والجزائر ومصر وتشاد وعبر وسط القارة. كانت هذه السياسة قصيرة النظر (إلى جانب الدور المشبوه الآخر في الحرب على سوريا)، وهي وراء جزء مهم من موجات اللاجئين المتلاحقة التي ضربت، ولا تزال، سواحل أوروبا الجنوبية، وظهر الاتحاد في مواجهتها عاجزاً عملاتياً وساقطاً أخلاقياً وكادت تطيح كل ترتيبات الحدود المفتوحة بين دوله المختلفة، كما ودفعت بالجنون اليميني المتطرف في كل الساحات الأوروبية إلى قمم كان يعتقد لوقت قريب أنها أصبحت شيئاً من الماضي.
ويجب أن يذكر هنا أن الإتحاد عازم في ما يبدو على تأسيس قوة تدخل أوروبية تكون بمثابة نواة لجيش أوروبي، وهو ما جرى الحديث به إبان الإنقلاب الأوكراني. ولا خلاف على أن جيشاً على ذلك النسق ستكون عقيدته القتالية معادية لروسيا بالطبع وسيحارب بإشارة القيادة الأميركية إذا اضطرت الأمور، وهكذا يموّل المواطنون الأوروبيون من جيوبهم قوات مرتزقة على نسق "بلاك ووتر" بنجوم صفر على خلفية زرقاء. وحتى قبل إنشاء الجيش المذكور، فإن الترتيبات المعمول بها حالياً بين الإتحاد وحلف شمال الأطلسي (الذي يضم في عضويته ٢١ دولة من أصل الـ ٢٨ التي يضمها الإتحاد) تسمح بنشر قوات عند حاجة الاتحاد، وهي ترتيبات استعين بها عدة مرات خلال الحرب اليوغسلافية وفي ليبيا أيضاً. وكانت وثائق "ويكيلكس" قد كشفت أخيراً على أن الاتحاد قد وسع فعلاً من قدراته العسكرية البحرية في المتوسط تحت غطاء مواجهة جحافل الهجرة غير الشرعية، وهي قدرات مهمة لتمكين تدخلات مستقبلية ممكنة عبر البحار.
و إذا تركنا النزعات الإمبريالية المتأصلة في كل ما يتعلق بغايات الاتحاد الأوروبي وسياساته، ونقلنا وحدة التحليل نحو العامل الاقتصادي، فان الاتحاد ملتزم على نطاق واسع بسياسات الخصصة النيوليبرالية وتمكين الرأسمال في تنفيذ سياسات التقشف القاسية على الطبقة العاملة الأوروبية التي دفعت، وتدفع، ثمن المغامرات المالية للبنوك والمضاربين وأيام أثينا الأخيرة ليست عنا ببعيد. كما أدى الاتحاد دوراً سلبياً جدا في إضعاف الاتحادات العمالية والنقابات، وضغطت تشريعاته الحدود الدنيا للأجور ولم تقدم للفقراء أي منافع اقتصادية بينما بدا الاتحاد على أرض الواقع بمثابة نادٍ لترتيب الصفقات وتنسيق المنافسة بين حيتان الرأسمال والتهرب الضريبي وتسهيل نقل المنتجات عبر الحدود خدمة للشركات المعولمة التي تغرق أسواق أوروبا دون أن تضطر إلى دفع ضرائب تذكر إلى الاقتصادات المحلية وهو ما أدى إلى إفلاس آلاف الشركات الصغرى التي أصابها الإنهاك بسبب المنافسة غير العادلة. ومن المعروف أيضاً أن الاتحاد تحوّل بشكل أو بآخر إلى ورقة بيد الامبراطورية في مواجهتها الاقتصادية مع الدول الصاعدة كروسيا والصين والهند ويخدم كسقف غير مرئي لمنع أي من الاقتصادات المحلية من تطوير علاقات تبادل مباشرة أعمق مع أي من هذه الدول.
إذن، أوروبياً، فإن الطبقة العاملة ينبغي لها أن ترى في هذا الاتحاد حقيقته: مخلوق سياسي وجد لخدمة الإمبريالية العالمية وأداة استغلال طبقي على مستوى أعلى وأعقد بكثير من أنظمة الهيمنة المحلية، وبالتالي كان الأجدر باليسار البريطاني أن يترفع عن السقوط في خدعة الديموقراطية السطحية المباشرة وأن لا يقبل الانخراط في لعبة الاستفتاء، في وقت يفرض فيه اليمين هيمنة شبه مطلقة على أدوات الإعلام والتوجيه الأيديولوجي وهي لعبة تخدم (بغض النظر عن أي نتيجة تفضي إليها) إلى خدمة أجندات المهيمنين فحسب.