بعد أيام على إغراق المشهد الإعلامي والسياسي الفرنسي بترسّبات انتخابات المناطق، والانشغال بصعود مدوٍّ لليمين المتطرّف، عادت الحكومة الفرنسية لتتفرّغ لـ"خطر" جديد أفرزته هذه الانتخابات، تمثل في فوز القوميين والاستقلاليين بغالبية مقاعد البرلمان المحلي في جزيرة كورسيكا التابعة لفرنسا. في الجولة الثانية من الانتخابات، في 13 كانون الأول، وعلى وقع المواجهة التي خاضها اليمين واليسار في مقابل اليمين المتطرّف لإبطاء صعوده، حثّ القوميون الكورسيكيون خطاهم بخفة في الظل، واخترقوا الحالة السياسية بـ24 مقعداً من أصل 51، ليعكروا بذلك صفو الدولة الفرنسية، التي وجدت نفسها أمام واقع عاشته قبلها إسبانيا وبريطانيا، اللتان تصادمتا مع النزعة الانفصالية في كاتالونيا واسكتلندا.
17 كانون الأول، كان مفصلياً، هو يوم انتخاب جان غي تالاموني (الاستقلالي) رئيساً للبرلمان المحلي في كورسيكا، وقد عاشت فرنسا خلاله مشهداً مثيراً للجدل، بإلقاء تالاموني ورئيس المجلس التنفيذي للجزيرة، جيل سيميوني (قومي)، خطابيهما باللغة الكورسيكية وبلهجة استقلالية حادة.
"يجب قول بعض الكلمات باسم هؤلاء الذين لم يقبلوا يوماً بمبادئ الحكم الفرنسي على كورسيكا، وباسم هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن القتال من أجل بقاء كورسيكا أمة، منذ عام 1768، وهؤلاء الذين لم يتخلوا قط عن فكرة الاستقلال"، قال تالاموني، مطالباً بالعفو عن السجناء السياسيين الـ25 المنضوين في إحدى الحركات الانفصالية المتهمة بالعنف وشن هجمات. وأضاف: "بانتخاب الاستقلاليين، قال الشعب الكورسيكي إن كورسيكا ليست جزءاً من بلد آخر، ولكنها أمة لديها لغتها، ثقافتها، وتقليدها السياسي، وأيضاً لديها أسلوبها لتكون جزءاً من العالم".
جيل سيميوني تنقل، بدوره، بين اللغة الكورسيكية والفرنسية في خطابه، مدافعاً تارة عن فكرة وجود الشعب الكورسيكي "الذي سيُعترَف به لأن ذلك يتناسب مع الحق والتاريخ"، وتارة أخرى باعثاً برسالة تحذيرية "إلى باريس، والحكومة"، بقوله: "استخلصوا الإجراءات المناسبة من الثورة الديموقراطية التي تعيشها كورسيكا".
لن يكون من السهل أن يحقق القوميون أهدافهم في ظل حصولهم على الغالبية النسبية

الثنائي سيميوني وتالاموني أطاحا اليساريين (12 مقعداً) واليمينيين (11 مقعداً) واليمينيين المتطرّفين (4 مقاعد). أحدهما والده إدمون سيميوني، وهو مؤسس إحدى الحركات القومية في كورسيكا، وكان قد سجن خمس سنوات في عام 1975، بسبب اختطاف رهائن. جيل يمثل الوجه المتحضر لحركة والده، فهو معارض للعنف ومناهض للحركات الوطنية المسلحة، إلا أن الاستقلاليين الذين يقودهم جان غي تالاموني يعتبرون أكثر راديكالية، ولا يتوانون عن الدعوة إلى العصيان المدني واستخدام العنف. وقد أسهم إلقاء السلاح من قبل "الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا"، في صيف 2014، في التقارب بين الرجلين، لتظهر نتائجه في الجولة الثانية من انتخابات المناطق.
الوضع سيكون معقداً رغم أن سيميوني وتالاموني يغرّدان في السرب ذاته في ما يتعلق بفرض شروط مسبقة، بدأت بالمطالبة بإطلاق السجناء السياسيين واستخدام اللغة الكورسيكية في الخطابات الرسمية. لكن الرجلين اتفقا على السعي إلى الحصول على مجموعة من الإجراءات التي توفر امتيازات إضافية لكورسيكا وتعزز موقعها السياسي، رغم أنها تتمتع بخصوصية تاريخية داخل الجمهورية الفرنسية، تُرجمت بتشريعات متعاقبة مع إصلاحات إدارية في الأعوام 1982 و1991 و2002، ومُنحت على أساسها صلاحيات واسعة.
تغيُّر ميزان القوى في كورسيكا، وضع الحكومة الفرنسية أمام واقع جديد ستُسهم في تعقيده المفاوضات لإنشاء حكومة موحدة للجزيرة (إلغاء إقليميها: كورسيكا العليا وجنوب كورسيكا)، بحلول عام 2018، انطلاقاً من مخاوف من أن تقود هذه الحكومة نحو مزيد من الحكم  الذاتي، على خطى كاتالونيا واسكتلندا.
وقد أثار خطاب الثنائي الكورسيكي ما تقدم من مخاوف، مشعلاً تبادلاً للردود بين الطرفين في الجزيرة وفي باريس. سياسيون فرنسيون من الأحزاب اليمينية واليسارية ردوا على اللهجة الاستقلالية، فأكد رئيس الحكومة السابق فرانسوا فيون (يمين)، أنه حتى لو حظي هؤلاء بالغالبية، لكن "ذلك لا يعطيهم الحق بعدم الامتثال للقانون، وإطلاق إهانات بحق فرنسا". أما رئيس الحكومة الحالي مانويل فالس (يسار)، فقد ارتأى التعقيب على تحركات الكورسيكيين الاستقلالية، بالتشديد على أن "هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تخطيها"، مذكراً بأن الجزيرة "جزء من فرنسا ومن الجمهورية، ولا يمكن أي خطاب بالكورسيكية أو الفرنسية أن يثير تساؤلات بشأن هذا الرابط". فالس أكد أنه "لا يوجد إلا لغة واحدة في الجمهورية هي الفرنسية"، كذلك أعلن معارضته للعفو عن السجناء السياسيين، قائلاً: "ليس هناك سجناء سياسيون".
ردّ فالس قابله ردّ آخر من جان غي تالاموني، الذي قال إن "اللغة الوحيدة في الجمهورية هي الفرنسية، وهو ما لا نشك فيه أبداً، لكن لغة كورسيكا هي الكورسيكية، لذا سنكمل في التكلم بها، في البرلمان المحلي، وضمن المؤسسات".
في خلفية الأخذ والرد، كان هناك من يحلل سبب وصول القوميين إلى سدة الحكم الكورسيكي، انطلاقاً من واقع أن التصويت لمصلحتهم لا يمكن أن يكون نتيجة التقارب بين سيميوني وتالاموني فقط، ولا كأثر للخرق الذي أحدثه هؤلاء في انتخابات 2010، بل "نتيجة سياسة طويلة من التخلي عن الجزيرة، من قبل الحكومة الفرنسية"، بحسب ما عقّب الكاتب جان بول بريغيلي في مقابلة مع صحيفة "لو فيغارو".
بريغيلي أوضح أن فرنسا لم تسع حقاً إلى تطوير اقتصاد الجزيرة، ورأى أنه "كان من المنطقي أن يستغل الكورسيكيون الفرصة السياسية، التي قدمها لهم النظام الازدرائي، ليكون هذا التصويت ثمرة الضربات الناعمة أحياناً والقاسية أحياناً أخرى... وأيضاً من حرمان العدالة". ومثالاً على ذلك، أشار إلى الجامعة التي أسهم والده في إنشائها في كورسيكا، والتي كان بناؤها "مخالفاً لإرادة الحكومة الفرنسية، وأيضاً الأحزاب التقليدية".
مع ذلك، فقد أشار الكاتب إلى أن "القوميين لا يملكون سوى غالبية نسبية، فيما يمكن أن يكون الإجماع الظاهر مضللاً". وبناءً عليه، لفت إلى أن كورسيكا "ليس لديها القدرات الاقتصادية المتوافرة في كاتالونيا، مثلاً"، موضحاً أن "الجزيرة يمكن أن ترنو إلى حكم ذاتي واسع، متخذة سردينيا أو صقلية نموذجاً، لكن هذا الأمر لن يحصل، إلا إذا واكبه تطوّر اقتصادي ما زال بعيد المنال".