لم يبق لتجار البلدة القديمة في القدس المحتلة سوى أن يغلقوا محالّهم التجارية وينضموا إلى قوافل البطالة التي وصلت نسبتها إلى 18% في المدينة. ركود اقتصادي كبير وإجراءات إسرائيلية مشددة تضرب عمود صمود المقدسيين، الذين يحاربون أجندات الاحتلال الرامية إلى إفراغ المدينة من العرب. تجار القدس يقضون أيامهم هذه بالاجتماع على قارعة الطريق أو في مقهى قريب من محالهم التي لا ترى وجه المشترين. يتبادلون الحديث أو يلعبون طاولة الزهر والورق، ولا يقطعهم سوى مرور أحد السياح، الذين يسألون أكثر مما يشترون.
أقل الإجراءات الإسرائيلية تكون طلب المترجم الإسرائيلي الذي يقود المجموعات السياحية ألا تشتري من الأسواق العربية. يقول المترجم للسياح إن أسعار العرب غالية جداً بالمقارنة مع الأسواق الإسرائيلية، كما يطلب منهم الحرص على نقودهم وأغراضهم المحمولة، لأن العرب «سراقون وغير أمينين»، كما يتحدث لهم، علماً بأن الحقيقة أن أسعار التجار العرب هي الأقل.
يقول التاجر المقدسي وصاحب محل الجلود في سوق الواد القريب من المسجد الأقصى زهير دعنا، إنه يعمل في محله منذ ما يزيد على 47 عاماً، ولم يمر عليه أسوأ من الحالة التجارية الآن. السيئ أكثر بالنسبة إليه أن دخله في بعض الأيام هو «صفر» دولار مقارنة بـ60 دولاراً يومياً هي مصاريف ما بين ضرائب الاحتلال وتكلفة الكهرباء.
والأزمة الاقتصادية في القدس بدأت عملياً منذ الحرب على قطاع غزة عام 2008، مع تراجع الرحلات السياحية شيئاً فشيئاً عن زيارة فلسطين المحتلة والأسواق العربية خاصة. أما موسم الأعياد الميلادية، فهو الأسوأ هذا العام. وبرغم أنه يمثل فرصة كبيرة للبيع يعتمد على أرباحها التجار طوال السنة، فإنهم الآن يضربون كفاً بكف.
اللافت أن الركود الاقتصادي دفع بعض تجار بلدة القدس القديمة إلى النوم في محالهم لتوفير مصاريف المواصلات التي لا يكادون يجمعونها خلال الأسبوع. يقول أحد التجار ممن يعملون في بيع السيراميك في سوق السلسلة، إنه يسكن في منطقة بعيدة عن المدينة مسافة 34 كلم، وليس هناك مواصلات مباشرة منها وإليها، فيضطر إلى المبيت في محله والعودة كل أسبوع أو أسبوعين إلى بيته.
كذلك يأتي الركود الاقتصادي في القدس بالتزامن مع غلاء الأسعار فيها، فقد وصل ثمن المتطلبات الأساسية من المأكل إلى أسعار عالية مقارنة بما قبل. مثلاً سعر كيلو الطماطم بلغ ثلاثة دولارات، في حين كان هذا المبلغ يكفي لشراء تسعة كيلوغرامات من الطماطم في السابق.
وكانت اتفاقية أوسلو المبرمة بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية عام 1993، قد شكلت نقطة التحول في الاقتصاد المقدسي، ويمكن القول إنها النقطة الزمنية التي بدأ منها الانحدار الاقتصادي ومرحلة تراكم الديون على تجار القدس. ويقولون إن السلطة لم تعر الاهتمام المطلوب تجاه المدينة وسكانها، ما أدى إلى وقوع التاجر بين صعوبة الحياة وإجراءات الاحتلال، الأمر الذي دفع 250 تاجراً مقدسياً إلى إغلاق محالهم والبحث عن عمل آخر، أو الالتحاق بصفوف المتعطلين.
أيضاً، يضطر بعض التجار إلى العمل خارج محالهم في أي مهنة تقابلهم، وذلك لتمويل عملهم الأساسي والإبقاء على وجودهم. يضيف مدير «مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية»، زياد الحموري، أن أكثر ما يعاني منه التجار المقدسيون هو التراكمات الضريبية التي تدفعهم إلى البحث عن مصدر ثان لتمويل محالهم وسد بعض الضرائب التي تشكل خطورة كبيرة على ملكية محالهم، لأنه يمكن لسلطات الاحتلال الحجز على تلك المحال بدعوى تراكم الضرائب.
بذلك، فإن العامل الاقتصادي إحدى أهم الطرق التي يستخدمها الاحتلال لحسم المعادلة الديموغرافية في القدس، فيضغط بيد من حديد على المقدسيين لترك المدينة والنزوح إلى مخيمات أخرى ذات تكلفة معيشية أقل. وفي المقابل، يعطي امتيازات كثيرة للمستوطنين عبر دعم تجارهم وتخفيض الضرائب.
يقول الحموري لـ«الأخبار» إن الحل لتجاوز الركود الاقتصادي هو دعم الصمود الفلسطيني من السلطة الفلسطينية والدول العربية، مضيفاً أنهم في «مركز القدس» معنيون بمتابعة الاقتصاد المقدسي وقدموا عدة مشاريع وأطروحات للسلطة، ولكن الأخيرة «لم تُبدِ اهتماماً بالشكل المطلوب». ويذكر أيضاً أن رام الله قدمت للتجار المقدسيين المسجلين في الغرفة التجارية ويحملون رخصة مزاولة مهنة مبلغ ثلاثة آلاف دولار كنوع من دعم صمودهم، لكن «التجار يرون أن هذا المبلغ غير كاف بالمقارنة مع الضرائب المتراكمة والحملات التي تشنها عليهم بلدية الاحتلال، وخاصة بعد اندلاع الهبة الشعبية الأخيرة».
ووفق بعض الأرقام، فرضت بلدية الاحتلال مخالفات بقيمة 1230 دولاراً أميركياً على كل تاجر يدخن في محله، بالإضافة إلى مخالفة بقيمة 230 دولاراً على كل زبون يدخن داخل أي محل، فضلاً عن أن التاجر الذي سمح للزبون بالتدخين سيدفع مخالفة أخرى بقيمة 1230 دولاراً. كما فرضت البلدية مخالفة بقيمة 120 دولاراً على كل تاجر يعلق لوحه باسم محله بذريعة عدم ترخيصها، ومخالفة أخرى بقيمة 500 دولار إذا لم يعلق «يافطة» داخل محله مكتوب عليها «ممنوع التدخين»، بالإضافة إلى مخالفات بقيمة 120 دولاراً لكل تاجر يعرض بضاعته على «بسطة» خارج محله.