«نوي دوبو» أو «الوقوف ليلاً»، هو حراك حديث النشأة، يدعو، باختصار، إلى إرساء فهم جديد للممارسة الديموقراطية التشاركية. وإن كانت نقطة انطلاق الحركة هي الاحتجاجات ضد تعديلات قانون العمل، فقد بات مركزها ــ أي ساحة الجمهورية في باريس ــ مكان لقاء وتحاور لشتى اللجان التي تهتم بمختلف القضايا المعيشية؛ اقتصادية كانت أو صحية أو ثقافية، مروراً بالمشهد الإعلامي أو حتى مؤسسات السجون والإصلاح. لا تمثيل يتجسد في نواة قيادية، فالجميع على قدم المساواة، ولأي كان الحق في التعبير عن رأيه ما دام لا يتفوه بأي كلام مبني على التمييز العنصري، أو الجنسي، أو معادٍ للمثلية.

يسار جديد... ذو بعد عالمي
أن يكون مركز الاحتجاجات في قلب العاصمة الفرنسية لا يعني أن الحركة تكتفي ببعد وطني، فقد رحبت الساحة مثلاً بوزير المال اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس، الذي عبّر في دقائق ــ مثله مثل غيره ــ عن «تضامن أثينا» مع المعتصمين، مشدداً على أن من حق المواطنين احتلال الأماكن العامة التي أخضعتها المنظومة الحالية لنوع من الخصخصة. ويتابع «الواقفون ليلاً» الحراكات الاجتماعية التي تحصل في دول العالم، مثل التحرك الاحتجاجي في جزيرة قرقنة بتونس، وذلك «بهدف التعرف إلى التجارب الاجتماعية التي يخوضها غيرنا وطريقتهم في المقاومة، فنحن نحارب منظومة إيديولوجية لا تكاد تختلف من بلد لآخر»، وفق ما يشرح المشاركون في الاعتصام.
لمساءلة تلك المنظومة، يرفض الحاضرون التقيد بالأعراف السياسية التي تتفادى الخوض في مواضيع شائكة. لا شيء في ساحة الجمهورية غني عن الجدل، واللجان تطرح دون حرج مختلف القضايا، مثل مستقبل حراكهم، وإمكانية مواصلته دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف، أو حتى طريقة احتلال المكان وحق المشاركين في المجال العام، على الرغم من احتجاج سكان الدائرة، أو مبدأ الترحيب بالجميع على الساحة، وبعبارة أخرى، ضرورة وضع حدود لحراك انبنى على مبدأ الحرية المطلقة والمساواة. فضلاً عن منح فرصة التعبير لمهمشين، مثل المهاجرين أو المشردين.
يرى امانويل تود مؤشر خير في الحراك، وأملاً في موت «الاشتراكي»

ومن اللافت للنظر أن هؤلاء المحتجين، وهم غالباً من الشباب، قرروا التحرك ضد تلك المنظومة في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا تحت رئاسة وحكومة اشتراكيتين، كدليل إضافي على خيبة أمل عارمة أصابت فئة عمرية اعتبرها الرئيس فرنسوا هولاند من أولوياته أيام الحملة الانتخابية عام 2012. وكأن إرادة تعديل قانون العمل كانت المؤشر النهائي على انحياز الحكومة إلى صف أصحاب رؤوس الأموال على حساب الطبقة العاملة، وفق ما يروّج له بين صفوف «الواقفين».

سقوط إعلام «المنظومة»
تجاهلت كبرى وسائل الإعلام الفرنسية، وخاصة المرئية، الحراك في أيامه الأولى، قبل أن تضعه في وقت لاحق محل الأنظار بسبب اشتباكات المحتجين مع قوات الأمن، أو بعدما طرد بعض المشاركين، يوم السبت الماضي، المفكر الإشكالي، آلان فينكيلكروت، من الساحة، واصفين إياه بالـ «فاشي»، وهو المعروف بمواقفه «الرجعية الجديدة» (néo réac) وبمساندته للصهيونية. وقد شهدت مختلف وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية بعد تلك الحادثة سيلاً من التنديد والتوبيخ تجاه «الواقفين ليلاً»، أبرز من شارك فيه من مفكرين، هم برنار هنري ليفي، وكارولين فوراست، ورفاييل انتوفين، وميشال اونفري، مروراً بافتتاحية الجريدة ذات الخط التحريري الاشتراكي «ليبيراسيون» بقلم لوران جوفران الذي شدد على أن «على كل مساند لهذه التجربة أن يقول: أنا لا أتضامن البتة مع هذا التصرف»، ووصولاً إلى وزيرة التعليم، نجاة فالو بالقاسم، التي رأت في الموقف فرصة لمنح هؤلاء الشباب درساً في الديموقراطية والتسامح.
بيد أن ألسنة الدفاع عن فينكيلكروت غضت الطرف عن كونه تمكن من حضور جميع المداخلات قبل طرده ــ التي دامت لأكثر من ساعة ــ دون أن يحتج أحد على وجوده، وأن ما وصفته المقالات بـ«الطرد المشين» لا يعدو أن يكون مبادرة من بعض الأفراد، وفق شهود من الحراك. وقد ذكّر هؤلاء في مقال لهم على موقع «ميديابارت» بالمواقف المتطرفة لـفينكيلكروت نفسه، والمتناقضة مع فكرة هذا الحراك ومبدئه، واصفين مجيئه إلى ساحة الجمهورية كنوع من أنواع الاستفزاز الذي تعوده، مذكرين بأن المشاركين في «الوقوف ليلا» لم يدّعوا قطّ الحياد السياسي.

هل من سبيل لرفض التكتل؟
هل بات هؤلاء المفكرون وأصحاب الافتتاحيات يقدمون مثالاً عصرياً على من أطلق عليهم الكاتب والصحافي، بول نيزان، في بداية ثلاثينيات القرن الماضي عبارة «كلاب الحراسة» (Les Chiens de garde) بسبب توظيفهم مرتبتهم الفكرية ومنابرهم الإعلامية لحماية منظومة ما؟
المؤرخ والديموغرافي، إيمانويل تود، حفيد بول نيزان، يرى في حوار أخير له مؤشر خير في هذا الحراك، وأملاً في «موت الحزب الاشتراكي». وبنظر تود، فقد آن الأوان لهذا الجيل أن ينعى أفكار الجيل السابق ومنطقه، وأن يتحرك براديكالية أكبر تجاه مؤسسات تهيمن عليه. لكن تود يحذر من خطر الفردية التي يشيد بها المحتجون والتي جعلوا منها دليلاً على حريتهم المطلقة، رافضين تكوّن أي نواة صلبة للمقاومة، لأنهم «وُلدوا انفراديين». ويذكّر تود بأن خصومهم من سياسيين وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة ينتمون إلى تكتلات قوية تصعب مواجهتها بهذا المنطق الانفرادي، ويقول: «لا أنسى درس لينين: لا ثورة من دون تنظيم!».
أما الخطر الآخر الذي قد يحدق بهذا الحراك، فهو عدم تمثيله للشباب الفرنسي بشتى انتماءاته الطبقية والاجتماعية، إذ انتقد البعض غياب محتجين من الطبقة الشعبية واقتصاره غالباً على الشباب الحامل للشهادات العليا. وهو بعدٌ قد يفسره انطلاق الحراك من قلب العاصمة باريس.
رغم أنّ حراك «الوقوف ليلاً» قد نأى بنفسه عن جميع الأحزاب المشاركة في المشهد السياسي الرسمي وعن أي شكل من أشكال الممارسة التقليدية للديموقراطية، فإن أغلب الأسهم التي وجهت إليه لم تأت من الأحزاب اليمينية بقدر ما صوبها اليسار الاشتراكي، وكأنه العدو الأول لهؤلاء المحتجين الذين ما فتئوا يشيدون بانتمائهم اليساري الراديكالي. وهكذا تعود هذه التعبئة لتطرح السؤال نفسه الذي جعلته سياسة فرنسوا هولاند حتمياً: هل لا يزال الحزب الاشتراكي الفرنسي ممثلاً لليسار؟