بعد برشلونة وبرلين وسانتياغو، حطّ معرض «ذكرٌ قلِق» في «متحف سرسق» (الأشرفيّة ــ بيروت) أخيراً. في بحثهما عن «المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين» الذي أقيم في «جامعة بيروت العربيّة» عام 1978 (بمشاركة 200 عمل فني تبرّع بها فنانون عالميون وعرب)، أعادت رشا السلطي وكريستين خوري صياغة فصل ناقص من تاريخ الفن العربي والعالمي الحديث، الذي تجاوز الحدود بين البلدان مع تجاوزه لجدران المتاحف. لزمت الباحثتان والقيّمتان اللبنانيتان ثماني سنوات لملاحقة أثر ووجوه وعلاقات معرض مُحي وجوده من تاريخ الفن وسرديّاته. البداية من معرض بيروت، وصولاً إلى توثيق حركات فنية مسيّسة ويساريّة انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين، في ظل انقسام العالم إلى معسكرين خلال الحرب الباردة. هكذا تضعان معرض فلسطين على خارطة المعارض والحركات الفنية العالمية. يضيء المعرض على متاحف تضامنية أخرى، مثل «متحف المقاومة العالميّة لسلفادور آينديه» الذي أطلقه فنانون تشيليون من منفاهم الباريسي بعد الانقلاب العسكري، ومتحف جنوب أفريقيا ضدّ الفصل العنصري، الذي انتقل إلى البلاد مع أوّل حكومة انتخبت ديمقراطيّاً، و«متحف الفن الأميركي في ماناغوا، للتضامن مع نيكاراغوا». كانت الأحداث السياسيّة تحتضن ممارسات كهذه وتبعثها في الوقت نفسه. قبيل المعرض من أجل فلسطين ببضعة أيّام، اجتاح العدوّ الإسرائيلي الجنوب اللبناني. أصرّ الفنانون وقسم الفنون التشكيلية في مكتب الإعلام الموحّد في «منظمة التحرير الفلسطينية» على ألا يؤثّر هذا على افتتاح المعرض في وقته المقرّر الذي حضره ياسر عرفات. ثم بعد أربع سنوات، سيصاب المبنى الذي كان يحوي اللوحات بقذائف أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. الأعمال التي كان يفترض أن تنتقل إلى متحف فلسطيني بعد تحرير البلاد، اختفت. راحت مع المبنى المهدّم، وبعضها، قيل لاحقاً، وجد في إيران أو كُشفت محاولات لبيعه في الأردن. مصير اللوحات الذي يمرّ مروراً هامشياً في بحث السلطي وخوري، يبدو كرمزية مادية مسبقة لهذا الغياب الذي ابتلع المعرض التضامني وأخفى وجوده من التاريخ المكتوب. والآن لا يبقى سوى الأرشيف الذي نقّبت عنه الباحثتان تنقيباً، ما الذي يقدّمه اليوم؟ قد يجد المتفرّج نفسه مجبراً على التوقّف عند هذا السؤال وهو محاط بكّل الوثائق والمعلومات، ربّما تجنّباً للوقوع في قراءة للماضي عبر الماضي وحده. في معرضهما، تتقصّد الباحثتان تحريك الوثائق بوسائط متعدّدة مثل الفيديو والصور الفوتوغرافية والوثائق الصحافية والملصقات والمقاطع السينمائية وغيرها من المستندات المعروضة. ألّا تكون مجرّد حبر على ورق. أن يتاح للجمهور والمتفرّجين تلمّس سيرورة العلاقات والشبكات الاجتماعية السياسية والفنية التي ربطت الفنانين من مختلف بقع الأرض تحت قيم تحدّت الأوساط الفنّية، وأفكار تحررية وتضامنية مع الشعوب في وجه الديكتاتوريات والاحتلال والإمبريالية. في استنطاقهما المكثّف والمتشعّب للأرشيف، بتواريخه وأسمائه وبلاده ومدنه الكثيرة، تشكّك السلطي وخوري بالتاريخ الفنّي نفسه وكتابته، بالإضافة إلى أفكار ودوافع أخرى لبحثهما/ معرضهما تتحدّثان عنها في هذه المقابلة:
في أحد الفيديوهات، يقول لكما الفنان الفرنسي كلود لزار إنه انتظركما لثلاثين عاماً للإفراج عن الوثائق والصور التي بحوزته. لماذا قررتما استعادة «المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين» بعد كل هذا الوقت؟ 
- بعد لقائي مع كريستين عام 2008، قرّرنا البدء بمشاريع بحثيّة تسائل السرديات السائدة والرسمية في تاريخ الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي. كنا (وما زلنا) باحثتين مستقلّتين عن أي جامعة أو معهد. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاهتمام بتجميع الفن العربي الحديث كان في ذروته في تلك الفترة، سواء في الدوائر الخاصة أو المؤسساتيّة (عربية أو دوليّة). كنا متنبّهتين حينها، إلى أن المزادات العالمية كانت تنشر تاريخاً ضيّق الأفق وغير موثّق، ليلائم السوق فقط. تمثّلت فكرتنا في محاولة الإجابة عن أسئلة بسيطة وواضحة من الممكن أن تكون نقاطاً للانطلاق في تحقيق نقدي.

تمحور مشروعنا البحثي الأوّل حول كتاب أندريه مالرو بعنوان «المتحف المتخيّل» ومعرضه المدعوم من اليونيسكو في لبنان عام 1957. أجرينا مقابلات وعدنا إلى الأرشيف، لتأتي النتيجة النهائية مقالاً نشر في كتاب. بالحماسة نفسها، قرّرنا محاولة فهم كيف جرى «المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين» عام 1978، نظراً إلى حجمه ونطاقه في بيروت ذلك الوقت. كذلك، فإن تاريخ المعارض كان قد أصبح مجالاً مثيراً للاهتمام وفعالاً ضمن تاريخ الفن، وإطاراً ملائماً لطرح أسئلة حول التأريخ، وحول ما لا يقرب إليه أو يسائله مؤرخو الفن. عام 2008، اعتقدنا أنه يمكن للبحث أن ينتهي بمقال تماماً كما في بحثنا عن «المتحف المتخيّل». هذا دليل على أننا لم نكن نملك أي فكرة عما كنا مقبلين عليه... أدركنا سريعاً أن آثار المعرض الوثائقية وتلك المؤسساتية الفعالة كانت متلفة أو ضائعة، ولم يكن هناك أمل في استعادتها، حيث كان علينا أن نعتمد على المقابلات مع الأشخاص الذين أسهموا في جعل هذا الحدث ممكناً. كان يفترض بالمعرض الذي نظّمه قسم الفنون التشكيلية في «منظّمة التحرير الفلسطينية» تحت إدارة الفنانة الأردنية منى السعودي أن يكون المحطّة الأولى لبناء مجموعة لمتحف مستقبلي تضامني مع فلسطين (من خلال حوالى 200 عمل فني لفنانين من 30 بلداً تبرعوا بأعمالهم التي عرضت في المعرض). في النهاية، إن استعادة المعرض بدت كما لو أنها تنكأ جراحاً قديمة لم تلتئم حتى الآن، وإحباطات طويت ونسيت تقريباً. بكلمات أخرى، كنا نذهب إلى ماض مضطرب، على طرقات ملتوية تفتقر إلى الأدلّة.

أحييتما في المعرض حقبة كاملة ونموذجية من النضال الفني اليساري المعادي للإمبريالية (في أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا واليابان، والبلدان العربية...) لكنها انقضت اليوم بفعل تغييرات سياسية عالميّة كثيرة. لا شكّ أن استعادتكما تقول شيئاً مختلفاً في لقائها مع الحاضر ونضالاته وقضاياه، ما هو برأيكما؟ وما الذي يضفيه التحاق هذا الفصل الغائب بتاريخ الفن مجدّداً؟
- قُدّم المعرض بنسخ مختلفة في مدن عدّة منذ عام 2015. إن أحد أكثر الجوانب إمتاعاً في تنسيق معرض وثائقي وأرشيفي يكمن تحديداً في حثّ الزائرين على المشاركة بطرق غير مألوفة في تأويل واستخراج المعاني الضمنية، وعلى وصل أجزاء السردية، وعلى رؤية الحاضر في لقائه مع الماضي. لم يكن تقديم بحثنا ضمن معرض عرضيّاً، بل كان أكثر صيغة ملائمة أو طارئة لتقديم سرديّة تأمّلية للتاريخ، ولمساءلة الحاضر. الأسئلة التي يثيرها معرض بيروت تختلف عن تلك التي تظهر في سانتياغو مثلاً (حيث قدّمنا المعرض هذه السنة)، أو في برلين (2016)، أو برشلونة (2015). لقد تعمّدنا الابتعاد عن التلقين، وراعينا قدر الإمكان مساحات الزوّار، كي يتوصلوا إلى فهمهم الخاص. يقدّم المعرض كميّة وافرة من المعلومات، لكن ليس هذا ما يهمنا بشكل أساسي، إذ أردنا أن نخلق مناخاً شاعرياً غامراً، وأن نبعث عالماً من التضامن الدولي وعلاقته مع الفن والفنانين، يكون مستفزّاً فكرياً وجذاباً عاطفياً في الوقت نفسه. ما أردنا قوله كتبناه في النصوص المعلّقة على الجدران وفي دليل المعرض. وإذا أردنا أن نضيف عبارة واحدة، فستكون ربما أننا نخبر قصصاً عن اللاجئين وعن أولئك الذين مدوا أيديهم إليهم، الذين أعادوا بناء متاحف بنتاج فني وفنانين بمواصفات عالمية.

ملصق لبرهان كركوتلي

نعلم أن المبنى الذي كان يحوي لوحات «المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين» تعرّض للقصف الإسرائيلي عام 1982، كيف أثّر مصير اللوحات المجهول في بحثكما، وهل وجدتما نفسيكما أحياناً تحاولان التعويض عن هذا الغياب من خلال بحثكما المتشعّب؟
- عندما كنا نبحث في المجموعة التضامنيّة مع فلسطين (1978)، كان من المهمّ بالنسبة إلينا أن نؤكّد دائماً وبصراحة أننا لسنا مهتمتين في استرداد الأعمال: لا يندرج هذا ضمن مسؤوليّتنا، ولا اختصاصنا أو رغبتنا. منذ البداية، كنا مهتمتين في إقامة هذا المعرض، وفي العلاقات والممارسات التي ربطت ما بين الفنانين المشاركين. الغموض المستمر والإزعاج والجدال التي تظلل مصير المجموعة، عقّدت تحقيقنا، ولا تزال حتى الآن. بصراحة، عندما زرنا مخزن متحف التضامن لسلفادور آينديه، كان المسؤولون عنه فخورين بعرض المجموعات التي تراكمت عبر السنوات. كيفية الاعتناء بالأعمال ضمن ظروف مناخية ومتحفية مثالية، أصابتنا بوخزة حزن وحسد. لكن ليست هذه النقطة الأكثر أهميّة. في الواقع، ولحوالى عشر سنوات تقريباً، كنا نحاول أن نتخيل المعرض في 1978 داخل القاعة السفلية لـ «جامعة بيروت العربية»، كيف اختلطت اللوحات معاً، وما الذي شعر به الزوار حنيها. وبما يخصّ تاريخ الفن، فإن المعرض/ المجموعة جمع/ جمعت أنماطاً، وأساليب ومدارس فنية ما كان لها أن تكون موجودة في المكان نفسه إلا بشكل استثنائي خلال الحرب الباردة. تنوّعت المجموعة ما بين التجريدية التخريبية، والفنون البصرية من المغرب أو أميركا اللاتينية، وصولاً إلى الفن التشخيصي الحديث، والواقعيّة الجديدة في أوروبا الغربية، والواقعية الاشتراكية من أوروبا الشرقية، والتعبيرية التجريدية، والفن الفطري، والسوريالية... إلخ. سحر التضامن الدولي المعادي للإمبريالية يكمن في تخطيه لمعسكرات ومحظورات الحرب الباردة.

بعض زوّار المعرض لم يخفوا مقارنتهم، النوستالجيّة أحياناً، بين تلك الفترة التي كان يجتمع فيها الفنانون على القضيّة الفلسطينية، وكان فيها الفن جزءاً من النضال السياسي، وبين اليوم. لكن من الواضح ابتعادكما عن النوستالجيا قدر الإمكان في تنسيقكما للمعرض. بدا أشبه برحلة علمية وتفكيكية لسياقه وأدواته والأجواء السياسية والنضالية التي أقيم خلالها. لماذا اعتمدتما هذا المنحى في الاستعادة؟ 
- النوستالجيا مرض سياسي واجتماعي، والتوق إلى ماض عذري أو مثالي، هو حماقة، لأن الماضي هو نتيجة الحاضر، وبالعكس. إن إحياء هذه التواريخ والغرق في النوستالجيا، كانا سيغلقان الأفق الذي أردنا أن نوسّعه. كنا متنبهتين لأخطار الوقوع في النوستالجيا، وحاولنا مقاومتها كلما كانت تظهر. وللأمانة، كلّما أمضينا وقتاً مع المواد واللقى التي عثرنا عليها، وكلّما تفحّصناها ودقّقنا بها بشكل جنائي وتركيب هذه الأحجية، كانت هالة النوستالجيا تتلاشى سريعاً. نتمنّى أن تلهمنا أعمال هؤلاء الأفراد والفنانين وأحلامهم وأفعالهم لنفكّر بما أصبح عليه التضامن اليوم.

تل الزعتر في البندقية (1976)


تشيران في المعرض وفي الكتيبّ المرفق به إلى غياب المعلومات حول المعرض في المنشورات الدوليّة والمحلية. ما سبب ذلك برأيكما؟ 
- هناك اعتبارات عدّة. عموماً، لم يبدأ اختصاص تاريخ المعارض، على الصعيد العالمي، بالمطالبة بحصّته في الجانبين النظري والبحثي في مجال تاريخ الفن إلا أخيراً. هذه الحالة تنطبق على كتابة تاريخ الفن في العالم العربي، إذا أخذنا في الاعتبار معرض بيروت عام 1978. البيناليّان اللذان أقيما في بغداد (1974) والرباط (1976) يغيبان تماماً أيضاً كما المعارض الأخرى. لكن إذا تجاوزنا العالم العربي، فإننا نتعامل مع عالم صنعه فنانون مسيّسون، ومناهضون للسوق والمؤسسات وخارجون عمداً عن سلطتها. مثلاً، كانت «جبهة الفنانين التشكيليين» في فرنسا جمعية مهمّة وتقيم صالوناً سنوياً، لكن تاريخها وأنشطتها لم تحظ حتى الآن إلا بكّمية ضئيلة من الأبحاث والدراسات. أما بعض الفنانين الذي لعبوا دوراً أساسياً فيها، فلم يتم الاحتفاء بهم إلا أخيراً من قبل المؤسسات البارزة، مثل جيرار فرومانجيه في «مركز بومبيدو» (2016)، وخوليو لو بارك في «القصر الكبير» (2013). من جهة أخرى، فإن «ذكرٌ قلِق» وفي تقصيه لمفهوم «المتحف في المنفى» أو «المتحف التضامني»، يستعيد نموذجاً متحفياً تخريبياً. متاحف أو مجموعات كهذه، صنعها فنانون وقيّمون ومؤرخون فنيون حول قضية أو فكرة سياسية، بما يخرج عن الأعراف والتقاليد المتحفية كلياً: المجموعات مؤلّفة من «هدايا» لفنانين تعدّ أفعالاً سياسيّة. بعبارة أخرى، إنهم متحرّرون كليّاً من الهيمنة الاقتصاديّة، ومن مراكمة الثروة والسلطة. هناك سبب ثالث أيضاً، هو أن تاريخ الفن لطالما كان مهتماً بما يسمى «الطليعيّة» (avant-garde)، في حين أن أعمال الفنانين الذين لم يعتبروا مبتكرين أو الذين لم يدفعوا الحدود لم يكلفوا حبراً كالآخرين. هذا الانحياز للتجديد الفني، هو إحدى الطرق البارعة التي يعتمدها السوق للتأثير على إنتاج المعرفة.


أمام الكم الهائل والمتشعّب من المعلومات التي خرجتما بها من بحثكما، اخترتما في النهاية وضعه في معرض عبر وسائط متعدّدة وتفاعليّة (فيديو، صور، كاتالوغات، ملصقات...) هل كان هذا خياركما منذ البداية؟ أم أن البحث والوثائق فرضت عليكما الشكل؟ وهل تنويان نشره ضمن كتاب لاحقاً؟
لم نكن نريد أن نعرض أي عمل فني في أي وقت. كان السؤال يظهر في كل نسخة من المعرض، وكنّا نصل إلى الخلاصة نفسها دائماً. «ذكرٌ قلِق» هو معرض أرشيفي وتوثيقي، لهذا إنه محصور بإعادة إنتاج المواد المعروضة. نعتقد أننا تخطينا الكثير من أعراف المعارض الأرشيفية: أولاً، ليست هناك أي مادّة أصليّة معروضة لأننا أردنا أن يشعر الناس بقدرتهم على اللمس والاقتراب والتدقيق بكل قطعة. ثانياً، اتبعنا استراتيجية عرض مكشوفة تماماً، حيث يمكن للزوّار أن يروا البروجيكتورات، والكابلات، وخلفيّات الشاشات...؛ على الصعيد العملي، لدينا عدد قليل من الأرشيفات الأصلية. ثالثاً، قمنا بتوسيع كبير لما يعتبر وثيقة أرشيفيّة، فقد استخدمنا مثلاً الملصقات، واسكتشات الفنانين، وأجزاء من الروايات المصوّرة كوثائق. كذلك، قمنا بتحرير كتاب يحوي مساهمات لمؤرخين فنيين، وقيمّين، وكتاب وفنانين، نشره المتحف الحديث في وارسو أخيراً ووزّعته دار نشر جامعة شيكاغو، ونتوقّع أن تصلنا نسخ منه نهاية هذا الشهر.

لماذا اخترتما عنوان «ذكرٌ قلِق»؟
عنوان المعرض باللغة العربية يعبرّ بأكبر قدر من الدقة عن مساره وهدفه، أي إعادة النظر، واستعادة الماضي غير المستقرّ وتحريكه. في «ذكرٌ»، ثمّة استحضار طقوسي وزيارة خفرة لما لم يعد له وجود مادي. وفي «قلِق» ثمة قلق مزعج ومؤرق تقريباً. قلق هو أيضاً اقتراح يتلاعب باسم ممثّل المنظّمة في باريس عزالدين القلق، الذي أردنا أن نذكّر بدوره. لا يحيل العنوان إلى مجموعة التضامن مع فلسطين فحسب، فالمعرض، كما رأيتِ، يظهّر، بالتساوي، ثلاث مجموعات تضامنية أخرى. إذ إن ظروف البحث، وحالة أرشيفات المؤسسات، والاستعادة التي تنكأ جراحاً كلها تنطبق أيضاً على المجموعات التضامنية مع تشيلي ونيكاراغوا وجنوب أفريقيا. التضامن الدولي هو أحد مظاهر أو تعبيرات اليوتوبيا. كانت الشبكات التي اكتشفناها معقّدة جدّاً، ولم نكن نتوقّع أن تكون قد لحمت من الإيمان، والتعاطف والتماثل، والألفة والصداقات.
الطرق الوافرة التي انخرط عبرها الفنانون بالفعل السياسي، والتي جاؤوا فيها بالفن إلى وسط الحياة الاجتماعية والسياسية العامّة في أحياء المدن والأرياف، كانت دليلاً على اقتناعهم بضرورة التضامن والتغيير السياسي، وإصلاح الدكتاتوريات والإمبرياليّة. نحن نستعيد هذه اللحظات التاريخيّة (التي تشكّل ماضياً قريباً)، خلال فترات الديستوبيا والإحباط؛ حين بدت «منظّمة التحرير» كما لو أنها قد فرغت من القوّة ومن أفكار تحقيق التحرر، وحين كان حكم «المؤتمر الوطني الأفريقي» لجنوب أفريقيا، قد بدأ يثير كمية انتقادات تفوق المديح، وحين عاد دانيال أورتيغا إلى السلطة في أكثر تحولّ مشؤوم في نيكاراغوا، بينما تشيلي هي الحالة التي تبدو أن الديمقراطية كانت قد تحقّقت فيها، رغم استدعاء ميراث الديكتاتورية، ورغم أن الإمكانيات المجهضة لحكم آينديه كانت لا تزال معقّدة وإشكاليّة جدّاً.
في استنطاقهما المكثّف والمتشعّب للأرشيف، تشكّك الباحثتان بالتاريخ الفنّي نفسه وكتابته


تبدو لعبة السرد جزءاً أساسياً من المعرض، ولعلّها الوسيلة الوحيدة لاستعادة «المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين» مع غياب الكثير من الأرشيفات الرسمية التي تحفظ ذكراه. مع ذلك، فإن السرد لا يخضع لخط واحد بل يقدّم أبواباً كثيرة للإيغال في ذلك الحدث. هل يتقاطع هذا مع السياق التاريخي للمعرض الذي كان بدوره جزءاً من حركات عالميّة وأحداث سياسيّة كثيرة؟
أردنا من سينوغرافيا وتصميم المعرض، كما تصورناهما مع «ستوديو سفر» في بيروت (تعاونا معاً في كل نسخ المعرض)، أن يماثلا عملية تطور البحث. وقد أردنا من تجميع المواد الأولية كما قد يقال، جمع القصص والتواريخ. بالإضافة إلى ذلك، فإن التاريخ الشفوي، والشهادات والتذكّر، مدرجة كثيراً في التأثير، وحيث لم نتمكّن من «التحقّق من حقيقة» ما ألمح به إلينا أو قيل لنا، قرّرنا أن نحترم الطريقة التي أراد بها محاورونا أن «يكتبوا أنفسهم في التاريخ». لهذا السبب تتقاطع السرديّات. وما أشرت إليه صحيح: أفعال الناس وانتماءاتهم وقراراتهم تقاطعت أيضاً. لائحة الفنانين الذين تبرّعوا بأعمالهم إلى مجموعة التضامن مع فلسطين عام 1978، كشفت روابط مع مجموعات تضامنيّة
أخرى.
لكن الأعمال الفنية نفسها أيضاً بدت كما لو أنها على مفترق التواريخ المتقاطعة. لهذا، مثلاً، اخترنا الهياكل الحديدية بدلاً من الجدران في فضاء المتحف، لأننا أردنا أن نبقي على رؤية شاملة للفضاء بمجمله (قدر الإمكان). ولهذا السبب هناك مدخلان للمعرض، يصبحان مخرجيه أيضاً.

معرض «ذكر قلق»: حتى 24 أيلول (سبتمبر) المقبل ــ «متحف سرسق» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 01/202001