تمتلك الممثلة والمخرجة اللبنانية سحر عسّاف لغةً مسرحيةً خاصة، فضلاً عن ذكاء يجعلها تختار أعمالها بعناية بالغة وفرادة خاصة. تقودها هذه العناية لخوض غمار تجارب قد يعتبرها بعضهم «صعبة» أو ربما «غير عملانية التطبيق». تدخل عسّاف تجربةً جديدة في مسرحيتها «عرس الدم» (ترجمتها ولبننتها بلهجة محكية) عن نص شاعر إسبانيا القتيل فيدريكو غارثيا لوركا (1898 ــ 1936). إنه مسرح «المكان» site specific theater؛ حيث يصبح الأخير جزءاً من العرض. هنا، لا يدخل الجمهور ساحة العرض فحسب، بل يدخل أيضاًَ إلى «المحيط الحركي الآمن» (comfort movement zone) للممثل. نجد مثلاً الممثل يطلب من أحد الجمهور أن يعطيه مكانه، أو أن يزيح من دربه لاستعمال الباب المعد لخروجه من المشهد.استخدمت عساف النص الأصلي للمسرحية التي كتبها لوركا عام 1933 وقدّمها في مدريد، ثم بيونس آيريس، وعرّبته مع إبقائها على اسم ليوناردو (عشيق البطلة) كما هو من دون تعديل «كنوع من التحية للوركا» وفق ما تقول عساف لـ «الأخبار»، قبل أن توضح: «هو الاسم الوحيد الذي استعمله لوركا في المسرحية، فيما بقية الأبطال بلا أسماء».
يشارك في العمل الذي يعرض في قرية حمانا (جبل لبنان)، أكثر من 24 مؤدياً بين ممثل ومغنٍّ. رقمٌ كبيرٌ نسبياً، إذ إنّ إدارة عدد كبير من الممثلين في أماكن مسرحية مختلفة، يعتبر منهكاً، فضلاً عن أنه في كثيرٍ من لحظات العمل نجد تداخلاً بين الشخصيات/ أبطال العمل وبين المغنين كما في مشهد العرس أو مشهد الختام، حيث يختلط الغناء الإسباني الآسر بالتمثيل.
مكان العرض والغناء والموسيقى والثياب، جعلت التجربة غنية للغاية


تبدو حرفة المخرجة اللبنانية ظاهرة من خلال إصرارها على أن يكون إخراجها واضح التقنيات. هكذا، ظهرت انسيابية المشاهد بالتناسق مع المسرحية الأم، فضلاً عن سهولة التنقّل بين أماكن العرض. ويحسب للمخرجة أنّها أعطتها كثيراً من «أصالة» خاصة جعلتها تقارب مكان المسرحية الأصلي. أضف إلى ذلك حرفة انتقائها لأبطالها. أدائياً، برعت ماي أوغدن سميث بشخصية الأم المنهكة الخائفة من «السكاكين» التي أودت بزوجها وابنها، وقد تودي اليوم بحياة ابنها الأخير. سميث تلعب الدور بحنكة تغوص في شخصية الأم القروية، سواء الإسبانية أو الشرقية عموماً. هنا تبدو الأم قائداً، محركاً، صلباً، ورمزاً للمنزل وأصالته بتقاليده وضوابطه. الأم/الأنثى هي من تبقى بعد رحيل الرجال (إلى الحرب أو سواها). أدت ماريا بشارة دور العروس، محاولة تقديم شخصية الفتاة الصغيرة التي أسرها الحب، ولكنها لا تدرك أنّ ما ترتكبه هو «خطيئة»، بالتالي توافق على الزواج، لكن الحب يظل جل أمانيها ومآسيها. اللافت أن الممثلة الشابة استطاعت أن تجسد شخصية «متوثبة»، إذ إنها في لحظةٍ ما تقرر الهروب مع عشيقها ليوناردو رغم الخطر المحدق بهما، لا بل تعود لتقدّم نفسها لوالدة عريسها كي تقتلها وتريحها من عذاب الضمير. ليوناردو (الوحيد الذي يحمل اسماً في المسرحية) أدى دوره جواد رزق الله بشيءٍ من الواقعية، وإن احتاج أن يضبط «صوته» أحياناً حين الغضب. لكن إذا ما نظرنا إلى مكانه/ دوره، ربما كان ضرورياً أن يخرج صوته منفعلاً وعصبياً بهذه الطريقة: فهو عشيقٌ خائن لزوجته، يهرب مع قريبتها التي تريد الزواج. اكتشاف العمل بالتأكيد هو بسمة بيضون، القادمة من كندا، حيث درست السينوغرافيا. ربما هي من أفضل المؤديات في «عرس الدم». تجسد بيضون دور زوجة ليوناردو الشابة التي تتحمّل سلوكه/ أسلوبه المهين في التعامل معها، فضلاً عن إدراكها التام لعشقه لقريبتها.
لكن شعورها الكبير بالالتزام والمسؤولية تجاه بيتها وابنهما الصغير، يجعلها تحارب لإبقائه معها. حِرَفِيَّاً، من يشاهد بسمة، يدرك تماماً كيف «ارتدت» هذه الشخصية كما لو أنّها هي: يتهدّج صوتها أثناء الحديث مع زوجها، تنكسر حركتها الجسدية حين تراه والهاً عاشقاً لغيرها في مشهد «العرس». وحتى في إصرارها على إبقائه معها، تظل تمسك بالمشاهدين بأدائها الواقعي البعيد عن المبالغة.
في الإطار عينه، أدى وليد صليبا دور العريس بطريقة جيدة، وإن بدا «مثالياً» أكثر من اللازم. باسل ماضي كان مقنعاً بدور والد العروس، لكن ربما كان يحتاج أن يكون أكثر «ماديةً» كما في النص الأصلي. لكن يحسب لماضي أنه استطاع التعامل مع الجمهور الذي يشاركه «مساحة عرضه» بطريقةٍ لبقةٍ وسلسلة. بدورها، بدت باسكال شنيص (جارة والدة العريس) ودارين شمس الدين (والدة العروس) واضحتي المعالم، أبقتا على جمال الشخصيتين من النص الأصلي. كريستين واكيم من جانبها لعبت دور أم الزوجة بشكلٍ جيد، وإن كان دورها قصيراً، فلم يتح لها مجالاً لإظهار الشخصية بوضوح أكبر، خصوصاً أنّ دورها هو إكمال لدور/ وظيفة الأم في المسرحية عموماً بالنسبة إلى لوركا. على الجانب الآخر، بدت ريتا باروتا وريتا ابراهيم جزءاً أساسياً من خلال قيادتهما للمشاهدين بطريقةٍ جد سوريالية عبر أماكن العرض كافة. تؤدي باروتا وابراهيم دور المتسولتين/ الغجريتين ببراعة. إنهما مرآة لفتيات القدر. تكفي الإشارة إلى أنّهما تظلان داخل شخصيتيهما حتى آخر لحظات المسرحية رغم أنّهما لا تتداخلان في مشاهد العرض، إلا في مشهدٍ واحدٍ. يذكر أن هذا العمل هو الأوّل أدائياً لباروتا، فضلاً عن أنّها ترجمت نصوص لوركا الغنائية في العمل وحولّتها إلى المحكية. «تجربة رائعة ومختلفة وشاقة كون نصوص لوركا صعبة وخاصة» وفق ما تقول لـ «الأخبار».
هذه المسرحية ليست حكراً على هواة أبي الفنون، بل تتوجه لكل محبي الإبداع بشكلٍ عام، فاستخدام المكان لغرضٍ فني، فضلاً عن دور الغناء/ الموسيقى والثياب في خلق عالمٍ مختلف، جعلا التجربة غنية للغاية. بعد مشاهدة العمل، لا بد من طرح السؤال: إذا لم يكن هذا هو المسرح، فما هو المسرح إذاً؟

* 21 و 22 نيسان (أبريل) ـــ الساعة 3:00 مساءً والساعة 7:00 مساءً
* 19 و20 نيسان ـــ الساعة 7:00 مساءً في ضيعة حمانا



المسرح المرتبط بالموقع
تأتي تجربة «المسرح المرتبط بالموقع» (أو المسرح الموقعي) إضافةً بحد ذاتها لأي عملٍ مسرحي، إذ إنها تتناقض مع مفهوم «خشبة المسرح». هنا تنتفي العلاقة/ الحاجز بين الممثل والمشاهد. يدخل المشاهد قلب العمل، ويتجوّل بداخله حتى أثناء العرض نفسه. لا حدود أو ضوابط تحكم حركة المشاهد، فضلاً عن سلوكه (إلا ما يفرضها العمل وقوته). عربياً/ محلياً؛ تكاد هذه التجربة أن تكون مليئة بالمخاطر، خصوصاً مع جمهورٍ لم يعتد هذا النوع من المسرح، لا بل إنه قد يلجأ إلى استعمال هاتفه في لحظةٍ ما إثر تلقيه رسالة نصية، أو أنه سرعان ما يتبادل الضحكات أو «المزحات» مع الممثلين أنفسهم، أو الجمهور.
كلها تجارب يمكن توقّعها في هذا النوع من المسرح، خصوصاً أن التماس بين الأبطال والجمهور يصبح في لحظةٍ ما عند «المسافة صفر».
هنا يكون التدريب وحرفة الممثلين الأهم في هذا التجارب: القدرة على الارتجال خارج المعتاد، كأن يطلب الممثل من الجمهور أن يفسح له كي يجلس، أو يدخل أو يخرج. لكن الأهم من هذا كله: أن يبقى في إطار العمل وألا يخرج منه لأي سببٍ. في «عرس الدم»، بدت حمّانا القرية الجبلية - اختارتها المخرجة اللبنانية خصيصاً، فضلاً عن رغبتها في العمل مع «بيت الفنان» هناك الذي سهل عملها واستضاف فريقه - جزءاً لا يتجزأ من مسرحية عساف/لوركا. البيوت باتت جزءاً من الحكاية، كما لو أنها حدثت فعلاً هنا أو أننا أصبحنا في قريةٍ إسبانيةٍ إبان الحرب الأهلية (1936-1939): الثياب، الأصوات، الطرق، المنازل، الكنيسة، قاعة القرية، وبالتأكيد الأبطال بكل ما يملكونه من ألق.


الثلاثية الريفية
تأتي «عرس الدم»، و«يرما»، و«منزل برناردا ألبا» بوصفهما العلامات الثلاث التي جعلت من الشاعر فيدريكو غارثيا لوركا واحداً من أهم الكتاب المسرحيين في العالم. تسمى هذه الأعمال بالثلاثية «الريفية» (تحدث في الريف الإسباني). القصة استوحاها لوركا من حادثة حقيقية (وقعت في 22 تموز/ يوليو 1928) أرّختها وكتبتها كارمن دي بورغس القادمة من مدينة «المرية» الأندلسية. تتناول القصة البسيطة التركيب، علاقة حب ثلاثية الأطراف (البطلة، العشيق، الزوج) إضافةً إلى الشخصية الأهم: الأم، فيما تتأرجح بعض الشخصيات بين الهامشية والضرورية حسب المشهد، في استعارة من لوركا لفكرة «القدر» من المسرح الإغريقي الذي يؤثر ولا يطل، أو يطل من دون أن يراه أبطال العمل، ولكنه يؤثر بهم وينتظرهم. من خلال الثلاثية الريفية، تنبأ لوركا بالحرب الأهلية الإسبانية التي سرعان ما سيصبح هو شخصياً من شهدائها وهو لا يزال في الثامنة والثلاثين من العمر. تقنياً، تمتاز «عرس الدم» الممتدة على فصولٍ ثلاثة، بكونها شاعرية تراجيدية، فضلاً عن تعلّقها بفكرة الموت والحياة وارتباطهما بالقدر والحب في آنٍ. إذ يغدو الحب القوة الوحيدة القادرة على التغلّب على الموت، ولو أنّها لا تنجح في نهاية المطاف.