في عصر يسهل فيه الحصول على المعلومة، يسهل أيضاً التضليل. في «كازينو الأنس» الواقع في شارع الهرم في القاهرة، سنكون شاهدين على انقلاب قدر خمسة أشخاص بسبب «تسرّب» معلومة إلى الإعلام، وخضوعها لمختلف أشكال الفبكرة والتضليل. كل هذه الأحداث ستجري في جو خفيف وظريف وقريب من الناس. تعاون أستاذ فرقة الغناء والعزف في «الجامعة اللبنانية الأميركية» (قسم الفنون والإعلام) عمرو سليم، مع خريج الجامعة نفسها عوض عوض للخروج بمسرحية موسيقية استعراضية شارك فيها طلاب من قسم الغناء والعزف، وآخرون من أقسام أخرى من الجامعة، إلى جانب عدد كبير من التقنيين والمحترفين. صحيح أنّ المخرجين اتفقا على تفاصيل العرض، إلا أنّ عمرو سليم تولّى مهمة التأليف والإخراج الموسيقي، وعوض عوض مهمة الإخراج المسرحي.
«كازينو الأنس» مزيج من الموسيقى والغناء والتمثيل والرقص وبرامج المنوعات التلفزيونية، يتناول أحوال البلاد والعباد في إطار ساخر. تبدأ الأحداث بعملية اغتيال ستكون سبباً في ظلم شخصيات تشكل ركيزة في حياة الكازينو، وبالتالي تقلب حياتها رأساً على عقب. إذ يتحوّل هؤلاء من أناس عاديين، إلى شخصيات/ أيقونات لها تأثيرها الاجتماعي والسياسي والديني وسطوتها على الرأي العام، وتتمتع بمناصرين ومعارضين لها على السواء. كل ذلك بتدبير من رجال أعمال ذوي نفوذ ومقربين من مسؤولين في الدولة يزدادون قوة مع الوقت، وهم بالطبع محميون ما داموا يَفعَلون ما يُؤمرونْ به.
العرض مقسّم إلى أجزاء عدة، كأنه لحن بتركيبات مختلفة


تتوالى الأحداث في جو من الترفيه والفرفشة. إذ لجأ المخرجان إلى شتّى أنواع الفنون لإيصال فكرتهما بطريقة مبسّطة وغير متكلّفة، وبعيدة عن الفلسفة والتعقيد. وقد استخدما اللهجة العامية المصرية والأزياء الشعبية، واستوحيا شخصياتهما من خلفيات متعددة طالعة من رحم المجتمع المصري الحديث. يبدأ العرض ببث مباشر لخبر عاجل من غرفة الأخبار، يوقف مسلسلاً تلفزيونياً. تعتلي غرفة الأخبار خشبة المسرح، ونرى الممثلين/ المذيعين مباشرة على الشاشة/ التلفزيون في أعلى المسرح أمام الجمهور. يأخذ التلفزيون (الشاشة) الخبر الحيّز الأكبر من الانتباه عند استعماله على رغم الوجود الفعلي/ الحسّي لما نراه على الشاشة. هو يستعمل في العرض كما في الواقع كأداة ترفيه، لكن أيضاً كمُدخل للمعلومة إلى النفوس والبيوت. هكذا منذ بدء العرض، نبدأ بالتساؤل عمّا وراء هذا التنسيق في الإخراج.
العرض مقسّم إلى أجزاء عدة، كأنه لحن بتركيبات مختلفة؛ فتارة يكون الدور للتمثيل، وطوراً للرقص والغناء أو لخبر تلفزيوني عاجل تتخلله إعلانات تلفزيونية تخرج شخصياتها من الشاشة إلى المسرح. يصبح هذا الفاصل الإعلاني كمقطع موسيقي يتكرر في معزوفة مستمرة.
الحدود بين الافتراضي والواقعي مشوش. خروج الإعلان من الشاشة إلى الخشبة (يخرج الممثلون الراقصون ويمثلّون الإعلان على المنصة) أو التشديد على ظهور المذيعين على الشاشة، أمر يجعل وجودهم الفعلي على المسرح ناقصاً.
النسوية، التجارة والترويج للمخدرات، العمالة والتسويق لمنتجات فاسدة بغاية الربح، فساد رجال الدين وتحويل الإيمان والدين إلى تجارة... كلها مواضيع يتطرق إليها العرض ويعالجها في خدمة الموضوع الأساسي الذي هو فبركة الحقيقة. آلية أو تكتيك معتمد للتطرق إلى هذه المواضيع الحساسة.
تتداخل الحقيقة بالخيال، وتنقلب الوقائع، فالتأثير في الرأي العام له دوافعه الخفية المتمثلة في صفقات تجارية ومواقف سياسية وحملات انتخابية. صورة التقطت بالمصادفة تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتسبب في فضيحة تهدد حياة من في الصورة، فتقوم القيامة ولا تقعد. لكن يكفي الاعتذار والاحتماء بالدين و«العفة» حتى يعفو الشعب عمّا مضى وينسى كل ما حصل.
موضوع العرض عميق ومعاصر، تطرق إليه المخرجان/ الكاتبان بظرافة وخفة وفكاهة وهذا ما كانا يبغيانه: الابتعاد عن التفذلك. جاء العزف والغناء في خدمة أهداف المخرجين، فقد برع العازفون وانسجمنا في الغناء كما طربنا، فيما تميّزت أصوات عن أخرى بجمالها، إلا أن الغناء بمجمله كان صحيحاً.
وجاء استعمال الوسائط المتعددة متعدداً وذكياً. إضافة إلى الشاشات والكاميرات التي تستعمل للبث المباشر، لجأ المخرجان إلى الجريدة كوسيلة إعلام وإلى الواتساب كواسطة لنقل المعلومات. بل إنّ الجمهور مدعو لاستعمال هاتفه بعكس ما هي الحال في العروض المسرحية عامة.
نظريات مرشال ماكلوهان حول الانتشار المادي والفكري للميديا، تزرع الرعب في النفوس، إذ نتنبّه إلى أننا واقعون في قلب تركيبة من العوالم الإعلامية التلفزية الإعلانية الثقافية. دوّامة عملاقة من الشاشات، تنقل وقائع ذات بعد درامي تشغل كلّ اهتمامنا، وكلّ متخيّلنا وكلّ أجسادنا أيضاً.
لم يكن ثمة مسافة نقدية بيننا، وبين هذا الكون المصنوع من الرموز، والصور المقطّعة ضمن سيناريوات، أو كما يقول بودريار، الميديا أصبحت «تُخرج» الحدث بإقصائه من الواقع (إخراج في العربية تحمل للمصادفة المَعنيين: الإقصاء وتحويل شيء ما إلى صورة سينمائية).
في «كازينو الأنس»، جُسدت المسافة النقدية، وظهرت فبركة المعلومات جريمةً مُثِّلت أمام ناظرينا. وسط ذلك، انكبّ عمرو سليم وعوض عوض على تفكيك هذه الفبركة والأضاليل، داعيين جمهورهما إلى إعادة التفكير وإرساء مسافة نقدية تجاه كل ما يراه ويسمعه.

* «كازينو الأنس»: 20:30 مساء اليوم وغداً وبعده ــــ مسرح غلبنكيان (الجامعة اللبنانية الأميركية ــ قريطم) ـ للاستعلام: 791314/03