يشتغل المسرحي السوري أسامة غنم (1975) منذ سنوات في منطقة أدائية خاصة، مراهناً على ذائقة استثنائية في تلقّي نصوص عالمية اقتبسها عن أعمال مسرحيين كبار أمثال صموئيل بيكيت (الشريط الأخير/ وحدث ذلك غداً)، وهارولد بنتر (العودة إلى البيت)، وتينيسي وليامز (زجاج)، وسام شيبرد (دراما)، أخضعها جميعاً، لمختبر مسرحي صارم، من موقع دراماتورجي شديد الحساسية، أو كما تقول أثير محمد علي «مخيلة شديدة الامتداد، وذاكرة لاقطة، علاوة على حساسيةٍ مغايرة، ومفرد مقدرة إبداعيّة على ابتكار «الوهم» الجميل من حنظليّة الواقع»، بقصد وضع هذه النصوص فوق خشبة مهتزّة تعمل على طهي النيء والخام بتوابل محليّة لاذعة، وتالياً، تأصيل فرجة طليعية، تبدو يتيمة حيال النصوص المعلّبة الأخرى. هكذا كان علينا أن نصمد بين ثلاث وأربع ساعات أمام مقترح مختلف، لكنه هذه المرّة يلجأ إلى كتابة وإخراج نصّه مباشرةً. العمل الذي حمل عنوان «شمس ومجد» يأتي تتويجاً لورشات عمل مستقلة، لطالما اشتبكت مع نصوص إشكالية، والحفر عميقاً في تضاريسها وصقل حوافها بما يلائم رؤيته الشخصية. في عرضه الذي تستضيفه خشبة مسرح «دوار الشمس» اليوم وغداً في بيروت، بالتعاون مع «مختبر دمشق المسرحي»، و«المورد الثقافي»، في جولته الأولى خارج دمشق، يورّط أسامة غنم المتلقّي في عنوان مراوغ يحيل في العادة إلى شعار تعبوي استهلكته الإذاعات والشاشات طويلاً. لكننا سنكتشف أنّ «شمس ومجد» هما شقيقتان، تعمل الأولى في بار، والثانية في كافيه. في هذا الفضاء الذي يستقطب القصص من شوارع الحياة اليومية، تتراكم سرديات البؤس، وعلامات التفكك، سواء بالنسبة إلى الشقيقتين، أو ما تفرزه علاقات الآخرين على السطح، بإعادة تدوير اليومي نحو حلم لن يتحقق كما ينبغي، لصعوبة التقاطه كفضاء سردي. إذ لن تفلح «مجد» التي تُعد الماجستير في علم الاجتماع في مواكبة عنف الحياة اليومية بالمقارنة مع أطروحة مفكّرها المفضّل مصطفى حجازي صاحب كتاب «سيكولوجية الإنسان المقهور»، إذ تتدفق حكايات زميلها في المقهى طارق بن زياد بما يحمله الاسم من دلالات تهكّمية، وبما يتجاوز مقدرتها على تصنيف هذه الوقائع في خانة دراسية واضحة. إذ تبدو- بالنسبة إليها- خيالية لفرط غرائبيّتها، فيما تعيش «شمس» أثناء عملها في البار، مناخاً آخر، يصنعه ممثلون يترددون على المكان، بحكايات أخرى تنطوي على سحر خفي، وحلم مؤجل بالعمل كممثلة، باقتفاء سيرة «جوليا» الممثلة المشهورة، لكنها، حين تكتشف سلوكياتها المشينة عن كثب، توجّه حلمها نحو ضفة أخرى، وشراكة مختلفة مع خليل صاحب ورشة للتمثيل في ضاحية جرمانا العشوائية ومحاولاته الخائبة في إيجاد ممثلة بدلاً من جوليا التي انخرطت في حياة مرفّهة تُتيحها أجور المسلسلات المائعة لا خشبة المسرح.
قراءة سوسيولوجية تقوّض قسوة سنوات الحرب


هكذا تتناسل دراما الحياة اليومية بطبقاتها المتعدّدة بما يشبه مرثية لما آلت إليه الأحوال اليوم: ينهي طارق ومجد ورديّتهما في المقهى، ليصدما بنصب لجناحَي ملاك اعتاد عابرو الشارع التقاط الصور التذكارية أمامه، فيحاولان تقليد الآخرين، ثم تقول مجد متهكّمة، وهي تمد ذراعيها إلى أقصاهما مثل مسيح مصلوب، لا مثل لحظة العاشقين في «تايتانك»، كما يفترض: نحن الآن في قمة المجد. سخريات من هذا الطراز، تتسرّب خطفاً بوصفها علامات على مستوى الاحتضار الذي تعيشه الشخصية. ثلاث ساعات ونصف الساعة، تمكّن أسامة غنم خلالها من تفكيك فتيل (الضجر المتوقّع؟) ببناء درامي متين، وأداء طبيعي ينطوي على تدريبات صارمة في تقشير طبقات الحكي إلى ما هو يومي وجوهري في آن واحد، مراهناً على طاقات شابة بقراءة سوسيولوجية تقوّض قسوة سنوات الحرب بمعول حاد، وبمكر سردي يُعيد الاعتبار إلى الفرجة الغائبة.
على المقلب الآخر، تتفوّق ثيمة الطعام التي تقتحم الحوارات المتعاقبة بين مكانين على ما عداها، وستنزلق عملياً لمصلحة عبارة واحدة هي خلاصة اللحظة/ المطحنة: كل ما يحدث حولنا ولنا ينتهي إلى براز! ثم من منعطف آخر في اللعب، سيتساءل ساخراً: ما الذي يضيفه الدرس النموذجي المكرّر في تمرينات التمثيل بتقليد حركة الضفدع والقطة والكلب؟ يا لهذا المواء والنقيق والعواء! نص تهكّمي، ومرثية لجيل تائه بين الحلم ومرارة العيش، في صراع مفتوح فوق خريطة ممزقة، ذلك أن ما يحصل فوق هذه الخشبة هو ماكيت مصغّر عن بلاد وكائنات، فقدت التمييز بين ما هو تمثيل وارتجال وخيال، وما انتهت إليه واقعياً: شمس آفلة، ومجد مزيّف، وصديد أفكار.

* «شمس ومجد» لأسامة غنم: س: 19:00 مساء اليوم وغداً ــــــ مسرح «دوار الشمس» (الطيونة ــ بيروت) ـــ مدة العرض ثلاث ساعات ونصف تتخللها استراحة ـــ للاستعلام: 01/381290