منذ بضع سنوات، كان عالم سيارات الأجرة أو التاكسي مستقرّاً ومملّاً في الوقت نفسه. وقد يفاجأ البعض أنّه منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين صنعت أوّل سيارة تاكسي، كان "العدّاد" الأوتوماتيكي حاضراً لقياس المسافة التي تقطعها السيارة بهدف احتساب الأجرة. وهذا العدّاد، المسمّى Taximeter، هو الذي أعطى التاكسي اسمها.
تطورات جزئية

وبالتالي، إذا وضعنا تطوّر السيارة نفسها جانباً، فإن كلّ ما شهده التاكسي منذ أكثر من قرن وحتى الأعوام القليلة الماضية كان بعض التطوّرات الجزئية، فلا ثورة حقيقية على هذا الصعيد طوال قرن بأكمله. بعض ذلك التطوّر تجلّى في تغيّر نموذج العمل من سيّارة يملكها السائق إلى شركات تشتري سيّارات وتوظّف سائقين، تضمن تدريبهم، ويمكن مراجعتها إن أخطأوا. وكذلك كان دخول الهاتف الجوّال بشرى خير للمستخدمين والسائقين، إذ يؤمّن الاتصال بسهولة لمن يريد حجز سيّارة، أو لمن يستفسر عن تأخّر أخرى.
لكنّ السلبيات التي يراها الناس في التاكسي بقيت هي ذاتها منذ أمد بعيد. فحجز التاكسي ما زال يتطلّب الوقوف لوقت طويل كي تمرّ سيارة بإمكانها الذهاب إلى حيث يريد الشخص. وفي حال الاتصال لحجز سيّارة، لا يعرف الشخص أين أصبح السائق ولا متى يصل، إلّا باتصالات متكرّرة ومضنية في معظم الحالات. وعندما يجد الرّاكب ضالّته، يتبع ذلك تفاوض مع السائق حول كيفية احتساب السعر. وبعدها يبدأ امتعاض بعض الرّكاب من السيارات ذاتها أو من تهوّر بعض السائقين أو من سوء اختيارهم لما يسمّونه موسيقى أو برامج إذاعية. وفي آخر الرحلة، يأتي وقت الحساب حيث يجمع الرّاكب كلّ تلك العملات الصغيرة من جيوبه حتى يُكمل المبلغ المطلوب. وإذا كانوا عدّة ركّاب تتداخل عندها حسابات المبالغ مع توافر "الفكّة" أو الـ"فراطة" عند الرّكاب والسائق.
توسّعت "أُوبِر" مع الوقت حول العالم، ووصلت إلى بيروت في تموز الماضي التي باتت أسرع مدن الشرق الأوسط نمواً
وكذلك يتداخل مبدأ إظهار المروءة والكرم مع تاريخ التعاملات السابقة بين الرّكاب. كلّ هذا قد يُثمر إن وصل الشخص إلى وجهته المقصودة، وليس إلى أوّل المتاهة المؤدّية إلى الشارع الذي يريده.

فكرة بمليارات

هذا التعقيد حلّته شركة "أُوبِر" Uber، ونتج عن ذلك تثمينها الحالي بأكثر من 18 مليار دولار. الفكرة بسيطة وذكية في الوقت نفسه: لم تشترِ "أُوبِر" الآلاف من السيارات بل قدّمت نفسها كوسيط بين سائق السيارة والرّاكب. يتعاقد الأوّل معها ويستخدم الثاني برنامجها على الهاتف الذكي. والنتيجة؟ يفتح الرّاكب البرنامج الذي يحدّد موقعه تلقائياً، ثمّ يطلب سيّارة تأخذه من ذلك المكان. بإمكانه رؤية السعر التقريبي للرّحلة، ويأتيه الردّ مباشرة أنّ هذا السائق سيأتي ليقلّه في غضون دقائق محدّدة.
يتابع الرّاكب تحرّك السيّارة القادمة على هاتفه حتّى وصولها. للسائق دافع ليحرص على أن تكون الرّحلة آمنة ولطيفة لأنّ الرّاكب يستطيع أن يقيّمه في ثوانٍ على البرنامج مباشرةً. ويمكن للأخير أن يحدّد ما يريد سماعه من موسيقى عبر هاتفه من خلال خدمة Spotify. أمّا حين تنتهي الرّحلة، فيظهر السعر النهائي. وبضغطة على الهاتف، يتمّ الدفع من البرنامج نفسه.
بنت "أُوبِر" إمبراطوريتها في عالم التاكسي وأصبح هذا العالم مرادفاً لاسمها كما يترادف اسم غوغل مع عالم البحث. وفتحت الباب لمطوّري البرامج كي يتفاعلوا مع خدمات الشركة. وهذا ما زاد الأخطبوط تغلغلاً. فبات بالإمكان الحجز في مطعم ما عبر تطبيق OpenTable، وفي الوقت نفسه حجز سيّارة إلى ذلك المطعم. وكذلك استفادت شركات الطيران وشركات تقييم الرّحلات، مثل TripAdvisor، والفنادق. وحتّى البرامج التي تسجّل فيها مذكّراتك أدخلت خياراً لكي تعرف من "أُوبِر" أين كنت اليوم وتسجّل ذلك تلقائياً.

لكل شيء

أبهر هذا المبدأ المستخدمين، وتوسّعت "أُوبِر" مع الوقت حول العالم، ووصلت إلى بيروت في تموز الماضي، ومنذ ذلك الوقت باتت بيروت أسرع المدن التي نمت فيها الشركة في الشرق الأوسط. نموذج "أُوبِر" تبعته شركات عالمية أخرى مثل "Lyft" و"Sidecar". وكذلك بدأت نسخ محلّية أو إقليمية بالظهور، كشركة "Careem" في الشرق الأوسط مثلاً.
وبنجاحها هذا، أصبحت "أُوبِر" فكرة وليس شركة فقط، ونحن اليوم أمام طفرة اسمها "Uber for X"، أي "أُوبِر" لكلّ شيء. وأبسط مثال على ذلك شركة Gofor لتوصيل طائرات تصوير (درونز) إلى مكانك، تتحكّم بها من هاتفك. وعلى نطاق أوسع، هذه الطفرة هي جزء من موجة أكبر في مجال الشركات الوسيطة بين الأفراد من مقدّمي الخدمات من جهة وبين طالبيها من جهة أخرى. ومثال على ذلك شركة Alfred التي تربط الأشخاص بآخرين يقومون بغسل ثيابهم وكيّها، أو التبضّع لهم من المتاجر، أو تنظيف منازلهم. وكلّ ذلك يمكن إدارته من برنامج للهاتف الذكي.

غزو للخصوصية الشخصية

لكنّ التحدّي الأبرز في هذه المسيرة المتصاعدة لـ"أُوبِر" كان "أُوبِر" نفسها: لم تكن أخلاقيات الشركة في العلن على قدر المتوقّع. وهو ما أثار ضجّة كبرى في الوسط التكنولوجي. أساس ذلك أنّ هذه الشركة تعرف عن تحرّكات المستخدمين أكثر ممّا يعرف الكثير من أعزّ أقاربهم، وربط هذه المعلومات ببعضها وإفشاؤها قد يفضح أسرار المستخدمين.
أساءت الشركة رسم صورتها الإعلامية. فتارة اعتبرت أنّ من حقّها أن تسوّق لخدماتها بعرض تحرّكات بعض المشاهير في سيّاراتها، من دون إذنهم، على الملأ. وتارة أعرب أحد مسؤوليها عن رأيه بأنّ الحلّ الأمثل لمواجهة منتقدي الشركة من الصحافيين هو في توظيف من يبحث بالمقابل عن خبايا حياتهم الشخصية ويفضحها (ومن أكثر قدرة من "أُوبِر" نفسها في هذا المجال). حتّى أنّ الشركة خرجت بمقالة على مدوّنتها (حذفتها لاحقاً) تتفاخر فيها بأنّها حلّلت "داتا" التحرّكات (دون الأسماء) لمعرفة نسبة الأشخاص الذين يستخدمون "أُوبِر" في ليالي الجمعة أو السبت ثمّ يستخدمونها للعودة إلى منازلهم في اليوم التالي، وفي هذا تطفّل رديء على تفاصيل الحياة الشخصية.
كلّ ذلك انعكس قلّة ثقة عند الكثير من المستخدمين الذين لم ترضهم اعتذارات الشركة المتكرّرة، وطالبوها بتغييرات جذرية في الإدارة. وأصبحت "أُوبِر" المثال على أنّه عندما تُبنى امبراطورية تكنولوجية تملك معلومات النّاس، فهي عرضة لتهتزّ بتصرّف طائش. وهي دليل حيّ على أنّ المستقبل هو لمن يثق الناس في حفاظه على خصوصيتهم.
وبغض النظر عمّا ستحمل السنوات المقبلة لـ "أُوبِر" وعن تذبذب سيطرتها على هذا السوق، هناك ضرورة للتفكّر بما هو التالي في هذا العالم الذي دخلته التكنولوجيا ولن تخرج منه قريباً. برأيي، في أعلى سلّم ما يجب أن يأتي هو أبحاث جديدة تمكّن الناس من ركوب هذه السيّارات عدّة مرّات دون أن تستطيع الشركات ربط هذه الرّحلات ببعضها ولا باسم الشخص.
لكن، واقعيّاً، ففي أغلب الأحيان يفضّل الناس المزيد من الخدمات على المزيد من الخصوصية. وبالتالي قد نرى أنّ "أُوبِر" ومثيلاتها تتّجه إلى الاستغلال الذكي لمعلومات المستخدمين، وإلى التعاون مع شركات تملك معلومات تفيدها، كـ "غوغل" مثلاً. فعندما تتأخر على موعدك، الذي تعرف مفكّرة "غوغل" زمانه ومكانه، قد يأتيك اقتراح بأن تذهب بواسطة "أُوبِر" اختصاراً للوقت.
وعندما تلاحظ "أُوبِر" نمطاً معيّناً في تحرّكاتك، قد تصبح هي من يسألك عمّا إذا كنت تنوي الذهاب إلى مكان معيّن أم لا. المخيف فعلاً هو أن تصبح السيارات الذاتية القيادة، والتي لا تحتاج إلى سائق، خياراً لمستخدمي "أُوبِر". عندها، قد يُصبح للسائقين ندّ آخر يغلبونه: هو اللاشيء! فمن سيكون الأقرب ليربح قلوب الرّكاب؟