فيما تقول شركة «نورالينك» إنّ شرائحها الإلكترونية الموعودة تهدف إلى مساعدة مرضى الشلل عبر وصل أدمغتهم مباشرة بالكومبيوتر، يؤكّد إيلون ماسك أنّ التقنية ستُعيد النظر إلى الضرير، والقدرة على المشي إلى المشلولين في القريب العاجل. لكنه أيضاً يتوسع في الموضوع، ويتحدث أنّ هذه التقنية هي الوسيلة الوحيدة التي ستحمي البشر من تفوق الذكاء الاصطناعي عبر دمجنا مع الآلة. ويتكلم أيضاً عن دخولنا إلى الميتافيرس وربط أدمغتنا بالإنترنت والأجهزة الإلكترونية عبر التقنية نفسها. وهذا مؤشّر على أنّ ما يريده الملياردير الأميركي أبعد من مجرد مساعدة المرضى. انطلاقاً من هذا كلّه، حملنا مجموعة من الأسئلة إلى المديرة المؤسِّسة لـ «برنامج سليم الحص للأخلاقيات الأحيائية والاحتراف» في المركز الطبي لـ «الجامعة الأميركية في بيروت» تاليا عراوي.
هل ما تريد «نورالينك» القيام به، أخلاقي طبياً؟
- إنّ سرعة التطوّر التكنولوجي تتخطى الأسس الأخلاقية أضعافاً مضاعفة. وفي حين أنّ مثل هذه التقنيات قد يكون لها تأثير جيّد على القضايا الصحية، يحتاج المرء إلى التفكير في المخاطر التي يمكن أن تفوق الفوائد. أذكر على سبيل المثال إنشاء «سايبورغ» (بشر مدموجون مع الآلة) أو تركيبة إلكترونية أخرى للانتقال إلى المستقبل، ما قد يتضمن تخطي الإنسانية إلى ما يسمى بـ «ما بعد الإنسانية».
أحد المخاطر الرئيسية لـ «نورالينك»، هو احتمال إساءة استخدام التكنولوجيا نظراً إلى أنّ الجهاز يسمح بالاتصال المباشر بين الدماغ والكومبيوتر، وبالتالي يتيح استخدامه للتلاعب بأفكار الفرد أو سلوكه. فقد يُساء استخدام التكنولوجيا من قبل مجموعة تريد السيطرة على الآخرين أو سرقة معلومات منهم. ومن الأمثلة أيضاً، ما يمكن أن يترتب عن علم تحسين النسل.
يعتقد كثيرون أنّ ما ذكرته آنفاً لا يشكّل إلا مصدر قلق بسيط، ولكن العكس هو الصحيح. هنا، أريد الإضاءة على معلومة لافتة، وهي أنّه من المعلوم أنّ لدى الحيوانات قدرة شعورية كبيرة (وأكاد أقول إنّها تمتلك إحساساً أكثر من البشر). وبالرغم من صوابية هذا، هناك قلق بشأن كيفية التعامل مع الحيوانات في التجارب الطبية. فقد ذكرت وكالة «رويترز» أن شركة «نورالينك» تخضع للتحقيق بسبب شكوك كبيرة حول أخلاقية أبحاثها العلمية وحول انتهاكاتها المحتملة لقانون حماية الحيوانات. لذلك، من الضروري الانتباه إلى أنّ الأضرار التي قد تقع، إن تفلتت الأمور بهذا الشكل، سيكون من الصعب جداً إصلاحها أو الرجوع عنها.
قد يسمح لنا العلم بفعل الكثير، ولكن السؤال الحقيقي هو حول ما إذا كان ينبغي علينا الأخذ بكل ما يمليه علينا العلم. لذلك، هناك فرق كبير بين ما يمكننا فعله وما هو مبرر أخلاقياً القيام به.
يجادل البعض بأنّ المبادئ التوجيهية الأخلاقية ستكون متوافرة بحلول الوقت الذي تتوافر فيه هذه التكنولوجيا على نطاق واسع. لست متأكدة من ذلك البتّة، وحتى لو كان الأمر كذلك، لا يمكنني القول إنّني مرتاحة لما قد يحدث في عالم تحكمه السلطة والجشع وتحركه السياسة الحيوية والجغرافيا السياسية. من الممكن أن تكون المبادئ التوجيهية الأخلاقية المُدرجة حينها غير ملائمة، أو أن تبقى حبراً على ورق في حال كانت مناسبة وتتبع معايير أخلاقية واضحة.
في الواقع، يحذر الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، جيفري هينتون، من تهديد الـ AI للبشرية، بطريقة وجودية بامتياز. أما بالنسبة إليّ شخصياً فكلما قرأت عن هذه التطورات تمنيت ألا أحظى بشرف التمتع بها .


هل يكفي حصول الشركة على إذن من «هيئة إدارة الغذاء والدواء الأميركية» (FDA) للمباشرة بالتجارب السريرية على البشر؟
- «نورالينك» شركة هادفة للربح، ما يعني أنه ليس لديها المبادئ التوجيهية نفسها لأخلاقيات البحث كمركز طبي. الـ FDA وافقت على التجارب غير أنّها لا تموّل المشروع، أي إنّ الشركة لا تخضع للقيود الأخلاقية نفسها.

هل هناك رأي طبي أخلاقي يدعم تحويل البشر إلى أنصاف آلات؟
- تقاطع علم الأعصاب والطب التكنولوجي يضعنا وجهاً لوجه مع الواقع الوشيك للـ «سايبورغ»، أي جزء إنسان وجزء آلة. دعونا ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة: ما هي طبيعة التغيير وما هو الذي سينتج منه؟ هناك مسألة ميتافيزيقية خطيرة: هل سيكون الكائن «السايبورغي» مُطابقاً للذات الإنسانية بخصوصيتها المتفرّدة؟
لنفترض أنّني «سايبورغ»، هل سأكون تاليا نفسها التي قابلتها سابقاً؟ هل ما زلت الشخص الذي تحدثت معه عبر الهاتف؟ هل سأكون نفس الصديق، نفس المؤلف الذي كتب «77 يوماً مع الرومي»؟ ما مدى قوّة هذه الذات التي هي أنا في مواجهة التكنولوجيا الإلكترونية الجديدة وآفاق تحسينها؟ هل سأكون الشخص نفسه بخصوصيته إذا كان عقلي مدفوعاً إلى حد كبير بجهاز يحاكي نفسي البشرية إلى الأبد؟
لا أعتقد أنّ طبيباً صاحب نظرة بعيدة المدى، سيتبنّى هذه التحولات وهذا الشرخ الكبير مع ماهية الإنسان ومميزاته. لا أرى (على الأقل حالياً) تبريراً أخلاقياً لما تتوجّه إليه البشرية... لبّ المسألة، إن أردنا اختصاره، هو البحث عن الخلود الذي أقلق البشرية منذ آلاف السنين. ومن هاجس الخلود ينمو سؤال أساسي: لمن سيكون تحقيق نوع من الخلود؟ للإنسان أم لـ «السايبورغ»؟
في جميع أنحاء العالم، يؤدي الأطباء ما يعرف بقَسَم أبقراط. إحدى مبادئه الرئيسية هي في عدم الإضرار. لا أستغرب أن يتم استخدام ما يعنيه هذا القَسَم بأسلوب ملتوٍ ليناسب أنصار «السايبورغية»، على أنّها تخدم الإنسان وتبعد عنه الضرر. أما بالنسبة إلى ما يعني «الضرر»، فأشعر بالقلق من ظهور السفسطائيين الذين سيطلبون منك إعادة تعريفه في العصر التكنولوجي المستقبلي. إنّها حقبة «فرانكنشتاين» بامتياز.
في هذا السياق، أذكر أسطورة «بروميثيوس» الذي عاقبه «زيوس» لسرقته النار وإعطائها للبشرية. تقول الأسطورة إنّ «بروميثيوس» كان مقيداً بالسلاسل إلى صخرة في جبال القوقاز حيث واظب نسر كل يوم على أكل جزء من كبده. غير أنّه كل ليلة كان كبده يعود لينمو من جديد. ما يعني أنّه كان عليه أن يتحمل عقوبته إلى الأبد. أخشى أن يصيب مصير مماثل أولئك الذين يقعون في فخ ما بعد البشري أو «الترانس هيومن». هذا العقاب سيكون مختلفاً عن عقاب «بروميثيوس»، لأنّه سيكون عقاباً قد فرضته الإنسانية على نفسها.