يخاطب الاتحاد الأوروبي مواطنيه هذه الأيام بشعر لمحمود درويش: «تُنسى، كأنّك لم تكن»! ويكرّر، كما الشاعر، هذه اللازمة على الملأ كي تسمعها غوغل وأقرانها جيداً: «تُنسى كأنك لم تكن شخصاً ولا نصاً. تنسى كأنك لم تكن خبراً ولا أثراً وتنسى». أمّا لسان حال غوغل، ومن خلفها الولايات المتحدة، فهو تردادٌ مع نزار قباني: «أني لم أتزوج بين نساء العالم إلا الحرية».
ما قد يراه البعض كليشيهات شعرية هو ملخّص لما جرى بين ساحات محكمة العدل الأوروبية وبين محرّكات البحث على الإنترنت خلال الأشهر الماضية: الأولى تريد إعطاء كل مواطن الحقّ في أن «تنسى»، أي أن تزيل، غوغل وياهو وغيرهما ما قد يراه محرجاً له أو مضرّاً بسمعته، والثانية تريد الدفاع عن حق الناس في معرفة الحقائق عن الجميع، مهما كانت سلبية من وجهة نظرهم. القانون الذي أقرّته المحكمة لا يسري على المواقع الإلكترونية التي تعرض المعلومة، بل فقط على محرّكات البحث، وكأنها تعامل المواقع كخيم في صحراء الإنترنت، لا معنى لها بلا دليل غوغل، يرشد الآخرين إلى تلك المعلومة، وبالتالي لا ضرورة لإزالة محتوى الخيمة إن أقنعنا الدليل بأن لا يرشد أحداً إليها.

غوغل خابية الإنترنت

لا شكّ في أن لهذا القانون إيجابيات عديدة، فالإنترنت كمساحة عامة، يمكن أيّاً كان أن يفتتح فيه موقعاً يبثّ من خلاله آراء عن آخرين قد لا يعجبهم ذلك. وبالتالي ليس من السهل أن يطلب المستهدَف من صاحب الموقع أن يزيل المعلومة، وخصوصاً إن كان الأخير موافقاً على بقائها. قرار المحكمة الأوروبية يحاول حلّ ذلك، على مبدأ أن «ما لا يظهر على غوغل، وكأنّه لم ينشر في الأساس». فغوغل هي الطرف الثالث والجهة الأسهل ليطلب منها ذلك، وإلا اضطرّت المحاكم إلى أن تتعامل مع كل ناشر للخبر على حدة. أضف إلى ذلك أن محرّك غوغل في الكثير من الأحيان يحتفظ بالمعلومة حتى بعد إزالتها عن الموقع الأصلي، فهو مثلاً يحفظ الصور في «خابيته» عندما يجدها على المواقع كي يسرّع الاستجابة للبحث عن صورة معيّنة في المرّات القادمة. فغوغل هنا هي بمثابة «المتحكّم» بالمعلومات، ولذلك يسري عليها القرار ولا يسري مثلاً على فايسبوك وتويتر، التي لا تقدّم، حتى الآن، وسيلة للبحث عن المعلومات من مصادر أخرى: هي فقط تعرض ما يكشفه الشخص اختيارياً، وتعطيه الحقّ في الاعتراض على منشورات معيّنة تهينه مثلاً.

الحقّ في أن تكون «ستالين»

يتركّز الامتعاض من هذا القانون في الولايات المتحدّة، التي خرج الكثير من كتابها ليتّهموا أوروبا بأنها تحاول الوصول إلى إخفاء التاريخ، أو أنها تعطي للعموم الحقّ في أن يكون كلٌّ منهم «ستالين»، فيمحو «تروتسكي» من تاريخ الصور معه أو أن يتمثّل بـ«كيم جونغ أون»، فيقصّ زوج عمته أيضاً من الصور. هذه «البروباغاندا» الأميركية تحاول الهجوم على أوروبا من باب اتهامها بخنق «الحق في المعرفة»، الذي يكفله الدستور الأميركي.


القانون الأوروبي لن ينهي
الجدل الدائر حول الحق في النسيان مقابل الحق في المعرفة


وشاركت غوغل بنحو غير مباشر في ذلك حين سرّبت معلومات عن طلائع الذين طلبوا إزالة المعلومات عنهم، وأنّ بينهم سياسياً يريد خوض الانتخابات مجدّداً، لكن البحث على اسمه في غوغل يظهر أنه سبق أن قام بتصرّفات سيئة في مكتبه، وكذلك بينهم طبيب يطلب إزالة روابط تتضمّن آراء المرضى وتقويمهم السلبي لأدائه. أمثلة كهذه تحاول التغطية فعلياً على إمكانية الاستخدام الإيجابي للقانون، وذلك لتخفيف العبء على محرّكات البحث، وخصوصاً أن شرارة الموضوع بدأت عندما اتجه محامٍ إسباني للمحكمة ليطلب من غوغل إزالة رابط لصفحة لا تزال تعرض إعلاناً عن مزاد على أملاكه لتسديد ديونه للدولة عام 1998. إذ إن حادثة كهذه قد تستجلب تعاطفاً مع القانون، لكون الديون قد دُفعت وأن حوادث كهذه عادة ما تسقط بالتقادم.

هل ينسى الإنترنت؟

بالخط العريض: «لا يمكن الإنترنت أن ينسى». جلّ ما تفعله غوغل في حالة ذلك المحامي هو أن تتظاهر بـ«الألزهايمر» عندما يبحث الأسبان عن اسمه من موقع غوغل الإسباني (google.es)، مغفلة حادثة ديونه، بينما البحث عنه في موقع (google.com) يعطي المعلومات كاملة عن تاريخه. بذلك تستجيب لقانون المحكمة الأوروبية. أما عملياً، فعلى ذلك الرجل أن يطلب منفرداً من غوغل وياهو وبينغ وغيرها من محرّكات البحث أن تزيل المعلومات عنه، وحتى ذلك لا يمنعها من عرض المعلومة في بلاد أخرى خارج الاتحاد الأوروبي. فبالحقيقة، يمكن أوروبا أن تطبّق هذه القوانين، لأن غوغل وأقرانها لها مكاتب ومصالح في عدة بلدان في الاتحاد الأوروبي، بحجة أن عملها هناك مقرون بخضوعها للقوانين. وهذا ما يعطيها سلطة لا تتوافر للكثير من دول العالم الثالث، التي قد توجد فيها غوغل أو مايكروسوفت بشكل ضئيل، حتى أنه قد لا يكفي ما تربحه من ذلك الوجود ليغطي على كلفة تطبيق الحق في النسيان لمواطني تلك الدول.
لا يمكن هذا القانون أن ينهي الجدل عن ضرورة إيجاد التوازن بين الحق في النسيان والحق في المعرفة على الإنترنت، بل هو بمثابة قفزة أوروبية إلى الأمام يمكن بعدها التفاوض. فالمحكمة تركت لغوغل تقدير هذا التوازن في استجابتها للطلبات، وحدّدت ذلك بالأشخاص العاديّين، لا بالشخصيات العامة أو بمن يطاولهم العمل الصحفي التقليدي. ويبدو ذلك شبيهاً بالحجّ إلى الكعبة عند المسلمين، إذ يمحو الحج الذنوب عند الله حسب عقيدتهم، حتى وإن تذكرها الآخرون، بينما تمحو غوغل ما يريده الأوروبي، إن وجدته صالحاً لذلك، فيخرج من غوغل كما ولدته أمّه، حتى ولو تذكّرته المواقع الأخرى.