عاش سيباستيان مع شريكته في ضواحي باريس لعدة سنوات. علاقة الرجل الثلاثيني بشريكته تطوّرت تدريجياً إلى أن اختارا العيش معاً في شقة واحدة.
إلا أنّ علاقتهما أخذت منحىً سلبياً غير متوقع أدّى، في نهاية الأمر، إلى انفصالهما بعدما بقيا معاً لسبع سنوات.

نهاية العلاقة أتت بواسطة تطبيق المواعدة الشهير Tinder. سيباستيان أدمن على تصفُّح التطبيق يومياً، وبدء المحادثات مع فتيات تعجبه صُورهنّ وحساباتهنّ. واليوم، وعلى الرغم من ارتباطه بفتاة أخرى، إلا أنّه ما زال يزور Tinder بشكل يومي. وهذا، ما أتى به ليستلقي على الكنبة في عيادة الطبيبة النفسية.

Tinder هو تطبيق للمواعدة على الإنترنت، صدر عام 2012. في غضون أشهر، أصبح بين أكثر 25 تطبيقاً اجتماعياً شعبية، استناداً إلى عدد مستخدميه. في حين أنّ بعض مستخدميه يدخلون إليه بهدف الزواج، إلا أنه اشتهر باستخدامه من قبل الشباب لإقامة علاقات عابرة.

يتميّز التطبيق بسهولة استخدامه: فهو يُبرز مستخدميه على شكل «كرت»، يحتوي على صورة يختارونها لأنفسهم ونبذة تعبّر عن كل منهم. ويمنح Tinder للمستخدم التعبير عن إعجابه بالآخر من خلال سحب «الكرت-الشخص»، الذي يظهر أمامه على الشاشة، إلى اليمين عبر تقنية الـswipe (أو، سحب الشاشة إلى اليسار إذا لم يعجبه «الكرت-الشخص»). يعلم المستخدم بإعجاب آخر به فقط في حال أنّ المستخدمَين تبادلا الإعجاب (هو ما يُعرف بالـMatch).

Tinder ليس تطبيق المواعدة الوحيد، إلا أنه الأشهر والأكثر شعبية بأكثر من 57 مليون مستخدم نشط حول العالم وحوالى 4.7 ملايين مشترك، حسب Financial Times (يمنح الاشتراك المدفوع المستخدم ميزات عدّة، من ضمنها أفضلية الظهور قبل المستخدمين الآخرين).

ليس من المستغرب أن يدمن سيباستيان على استخدام التطبيق.

فـTinder يعتمد على آلية العمل نفسها الموجودة في ألعاب القمار واليانصيب وألعاب الفيديو، حسب اعتراف أحد مؤسّسيه جوناثان بادين.

في وثائقي نُشر عام 2018، أشارت إليه The Guardian في أحد مقالاتها، يقول بادين إنّ الخوارزمية التي يعمل بها التطبيق مستوحاة من عملية التعزيز في علم النفس السلوكي، والتي تعمل على زيادة احتمالات تكرار المستخدم سلوكاً معيّناً في المستقبل، بناءً على تحليل سلوكياته السابقة. في هذه العملية، تعزّز «المكافأة»، التي يحصل عليها المستخدم عند علمه بأنّ إعجابه بشخص آخر هو إعجاب متبادل (يحصل الـ«match» بينهما) من سلوكه الأول (البحث عن مستخدمين يعجبونه وسحب الشاشة يميناً أو يساراً)، ما يجعله يكرّر السلوك الذي كوفئ عليه، بهدف الحصول على المكافأة مرة جديدة.

تُرجع دكتورة علم النفس التحليلي والمرضي هادية محمد الاستخدام الكثيف لمواقف مثل Tinder إلى خوف الإنسان في المجتمع الحديث من الوحدة، وخصوصاً في بلدان مثل فرنسا حيث يعيش أهلها نمط حياة استهلاكياً وسريعاً يحدّ من قدرتهم على مقابلة أشخاص جدد والتعرّف إلى أطباعهم عن قرب وبناء روابط عميقة معهم.

قلّة هُم المستفيدون من تلك التطبيقات، وخصوصاً أنّ آلية عمل التطبيق لا تسمح بمعرفة «التاريخ العاطفي» للمستخدمين.

وفي هذا الشأن، تقول محمد: «هناك إمكانية أن يتعرّف الأفراد إلى أشخاص مناسبين، ولكن العديد منهم معرّضون لتجارب سيئة، إذ هناك مجرمون وأصحاب سوابق موجودون على التطبيق».
(shutterstock)

لكن Tinder والتطبيقات الأخرى لا تحلّ مشكلة الوحدة وشعور الناس بأنّ ليس لديهم في حياتهم مَن يفهمهم – بل، على العكس، فهي تزيد من حدّتها نظراً إلى شعور الأفراد بتحوّلهم إلى سلع، يرتبطون بعلاقات سطحية عابرة، تهدف إلى تعبئة وقت بعضهم البعض، وتلبية حاجات بعضهم الجنسية.

من هذا المنطلق، ترى محمد أوجهاً للشبه بين هذه تطبيقات المواعدة والمتاجر الإلكترونية، وتصف التطبيقات بأنها «متجر للبشر»: فمثلما يسهّل المتجر الإلكتروني التعرّف إلى سلعة يعرض صانعها صوراً جذابة عنها ونبذة عن أفضل أوصافها (ليستفيد من ارتفاع الطلب على سلع تحمل هذه الصفات) بغية بيعها، يصفّي الفرد صفاته، ويختار أفضلها وأكثرها شعبيةً، ليعرض صورة إيجابية عن ذاته يسهل تسويقها و«بيعها» للآخر.

وأضافت محمد: «المرعب في الأمر أنّ هذه التطبيقات تسوّق نفسها على أنها الحل للوحدة، فيما في الواقع هي تغذّي هذا الشعور».

والمستخدم يعود، مرة تلوّ أخرى، ليحصل على المزيد من «الحُب».

الأمر لا يتطلّب أكثر من «match» واحدة حتى يعلق مستخدم تطبيقات المواعدة في العملية الاستهلاكية، ويدمن على استخدامها في حال كان لديه استعداد للإدمان، علماً أنّ بين 40 في المائة و 60 في المائة من الناس لديهم استعداد للإدمان بسبب تركيبتهم الجينية، حسب دراسة نشرتها مجلة Molecular Journal عام 2005.

ولأن الشباب، الذين يشكّلون أكثر من نصف مستخدمي Tinder، هُم أكثر فئة عرضة للإدمان، وخوارزمية التطبيق تعزّز هذه النزعة عند الناس، فلا عجب إذاً من أن يدفع تعلّق سيباستيان بـ Tinder وإدمانه على استخدامه إلى خيانة شريكته التي يحبّها.

وفي عالم استهلاكي، تتحكّم فيه شركات عالمية كبرى جشعة، تدرس سلوكيات الناس وتوظّفها في تحصيل المزيد من الأرباح على حسابهم، يتحوّل سيباستيان إلى رقم واحد من بين ملايين من أصحاب الحسابات والبيانات، لا يتميّز عن غيره سوى بصورة ونبذة كتبها عن نفسه ليرضي من خلالها ذوق الآخرين.

إنها جنة الشركات العملاقة، إنها نشوة الربحية.
تطبيقات المواعدة: سوق الحبّ مُربح
قد تخيّم الضبابية على مستقبل علاقات سيباستيان، لكن مستقبل تطبيقات المواعدة واضح: ستحقّق هذه التطبيقات مزيداً من النمو في عدد مستخدميها وحجم أرباحها خلال السنوات القليلة القادمة.

ومع بلوغ حجم سوق تطبيقات المواعدة حوالى 12 مليار دولار مع نهاية عام 2018، أطلقت شركة Facebook في أيلول من العام الماضي ميزة للمواعدة في الولايات المتحدة (على أن تُفعّل هذه الميزة في بلدان أخرى لاحقاً)، واعدةً بأن تعمل Facebook Dating لتقريب الأشخاص «المتشابهين»، استناداً إلى البيانات المفصّلة التي تملكها الشركة عن مستخدميها.

وتدخل Facebook في منافسة مع عملاق سوق تطبيقات المواعدة، مجموعة Match Group المتفرّعة عن IAC. المجموعة، التي حصدت أرباحاً بقيمة 1.7 مليار دولار، تملك Tinder و OKCupid وPlenty of Fish و Hinge.

المجموعة سبقت الجميع إلى السوق، عندما لاحظت تطوّرها باكراً. ففي عام 1999، اشترت شركة Match.com، ثم تبعت هذه الصفقة بشراء عدد من اللاعبين الرئيسيين في السوق، حينها، شكّل ظهور الإنترنت نقلة هائلة في طريقة التواصل بين البشر.

في العقد الأول للإنترنت، بقيت المحادثات في العالم الافتراضي بين الأشخاص الذين تربطهم علاقة في الواقع. فكان الشاب يستخدمون الشات للتحدث مع أصدقائهم أو أقربائهم أو جيرانهم أو زملائهم في الدراسة.

نجاح مواقع التعارف شعبية كبيرة بين الشباب، دفع الشركات العاملة في هذا المجال إلى نقل تجربة التعارف من مواقع الإنترنت إلى تطبيقات الهواتف الذكية مع انتشارها في العقد الأخير.

وهكذا، أصبح الشريك المحتمل، بصورته ونبذة عنه، في الجيبة، والتواصل معه لا يتطلب سوى سحب شاشة الهاتف يميناً.
تطبيقات باقية وعلاقات عابرة
ازدياد الطلب على هذه التطبيقات وانتشارها بكثرة لا يعنيان أنها باتت «آمنة» بنسبة مائة في المائة.

بعضٌ من هذه التطبيقات تعمد إلى غش المستخدم للحصول على أمواله، كما فعل Arabian Date، مستغلاً اهتمام الشباب العرب باستخدام تطبيقات موجهة إلى المنطقة. حسابات التطبيق وهمية، تستخدم الذكاء الاصطناعي، وتبعث رسائل مزيفة من «معجبين» إلى أي مستخدم جديد، لتزيد من استعماله للتطبيق (العملية، أيضاً، مستوحاة من عملية التعزيز في علم النفس السلوكي)، قبل أن تطلب منه وجوب دفع مبالغ مالية شهرية إذا ما اردت إكمال المحادثة.

وفي عام 2016، تعرّض موقع Adult Friend Finder إلى خرق، ما أدى إلى انتشار بيانات حوالى 340 مليون حساب.

على سيئاتها، يزداد الطلب على استخدام تطبيقات المواعدة، نتيجة تصاعد السلوكيات الاستهلاكية في المجتمعات كافة مع تأثر الشعوب بأسلوب الحياة المُعولم.

اليوم، يبحث سيباستيان عن شريكة جديدة، ليقضيا معاً ليلة، أو أكثر بقليل، في وقت يعلم أنّ سلوكيات مستخدمات Tinder تصعّب من احتمالات تكرار تجربة البقاء في علاقة تتطوّر تدريجياً إلى مساكنة أو زواج.

مستقبل المواعدة على الإنترنت لا ينبئ بأي أمر إيجابي، وخصوصاً أنّ الأمور مفتوحة هنا على كل الاحتمالات وهي مرتبطة بشكل المجتمع الذي تتواجد فيه.

وتضيف محمد: «تدفع هذه التطبيقات الإنسان إلى تسليع نفسه بنفسه كمنتج وضع على الرفّ، بهدف جذب أكبر عدد من الزبائن المحتملين لتغذية ثقته بنفسه والأنا بطريقة سطحية. ولذلك، فعليه أن يعيد تكوين صورة ذاته لتتناسب مع الذائقة العامة للسوق».

وتختم: «Tinder يعطيك القليل من اللذة الآنية مقابل الكثير من التعاسة المستقبلية».