للثورة التكنولوجية إيجابيات كبيرة وانعكاسات بنّاءة على حياة المجتمعات، لكن بالمقابل هناك انعكاسات خطرة على حقوق الإنسان؛ وأبرزها الحق في الخصوصية. لم يعد الموضوع فقط مواقع تواصل اجتماعي، حيث يتم جمع كميات ضخمة من المعلومات عن الناس والمجتمعات والتعامل معهم كمنتجات. لم يعد أيضاً هواتف ذكية تحدد تنقلاتك واتصالاتك وبياناتك بالصوت والصورة. فاليوم، حتى لو لم يكن لديك حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى لو لم تكن تملك هاتفاً ذكياً... أنت مراقب. المعادلة التي يروّج لها الكثيرون عن التكنولوجيا مقابل الخصوصية، باعتبار أن فقدان الخصوصية هو ضريبة استعمال خدمات تكنولوجية معينة، أصبحت سياسات حكومية عالمية تستثمر في التكنولوجيا للسيطرة على المجتمعات من خلال المراقبة والترصد بهدف إدارة الجموع وتوجيه الرأي العام والنخب، وهو ما لا تنفك تخبرنا به تسريبات إدوارد سنودن ومنظمة "ويكيليكس"، ولن تكون فضيحة المكسيك الأخيرة واستعمال الدولة برمجيات تجسسية إسرائيلية للتجسس على ناشطين حقوقيين آخرها. من أهم المواضيع المطروحة برمجيات تحديد الوجوه، حيث يتم ربط كاميرات الشوارع والمطارات والمحطات وكل ما يحمل كاميرا مراقبة بخوادم وبرمجيات تسمح بتحديد هوية الشخص من خلال تفاصيل وجهه (يتم تحفيظ وجوه كافة الناس رقمياً وخاصة تفاصيل معينة في الوجه)، فيقارن البرنامج الصورة الحالية.
وباستعمال الذكاء الاصطناعي، يتم البحث في قواعد المعلومات الضخمة، حتى يتعرف على شخصية صاحب الوجه من خلال نسب التطابق. في العديد من الدول، بدأ الناس يتحركون رفضاً لهذه المراقبة القسرية التي يتعرضون لها. من بريطانيا والولايات المتحدة، وصولاً إلى ألمانيا أخيراً، تزداد نقمة الناس على الشركات والحكومات التي تستعمل هذه التكنولوجيا لتتبع المواطنين وحركتهم. ولمواجهة هذه التقنيات التي تنتهك الحق بالخصوصية، يقوم العديد من الناشطين بتطوير تقنيات وأساليب تسمح بخداع هذه الأنظمة والتملص من المراقبة والتعرف على الوجوه من أجل الحفاظ على الخصوصية.
البداية مع URME surveillance وهي مبادرة للفنان ليو سيلفاغيو الذي يعيش في شيكاغو حيث يوجد أكثر من 25 ألف كاميرا مراقبة متصلة ببرامج التعرف على الوجوه.

صمّم عدد من الباحثين نظّارات تخدع برنامج التعرف على الوجه
عن طريق تغيير البكسل في الصورة
فكرة سيلفاغيو بسيطة: قناع بسمات وجهه، وبالتالي فإن الكاميرات ستتعرف على وجه ليو. هكذا بدأ ليو بإنتاج مجموعة أقنعة مختلفة من قناع ورقي متوفر للجميع، إلى قناع مطاطي مطبوع بأبعاد ثلاثة. وقد تم اختبارها لتكون واقعية جداً، بحيث تمنع التعرف على الشخص خلف القناع. يريد ليو أن يثبت فكرته بوجوب حماية الجمهور من المراقبة وخلق مساحة آمنة لاستكشاف هوياتنا الرقمية، لذلك يبيع الأقنعة من دون أي أرباح لأنه يعتقد بأن الجميع يجب أن يكونوا قادرين على تحمل كلفة الحماية من المراقبة.
السنة الماضية، نجحت مجموعة من الباحثين في جامعة Carnegie Mellon في ابتداع نظارات ملونة قد تبدو للوهلة الأولى للأطفال، إلا أنها تسمح للناشطين والصحافيين بالتنقل من دون أن تستطيع البرمجيات التعرف على وجوههم لتحديد هويتهم، وذلك من خلال تغيير معالم الوجه التي يبحث عنها عادة برنامج التعرف على الوجوه. فإطارات هذه النظارات مصممة خصيصاً لتخدع برنامج التعرف على الوجه عن طريق تغيير البكسل الموجودة في الصورة بشكل انتقائي، بحيث يمكن أن تجعل مرتديها غير مرئي أساساً من قبل هذه الأنظمة، كذلك يمكنها أن تخدعها لتظن أنك شخص آخر. وعن طريق تغيير الأنماط المطبوعة على النظارات، تمكن العلماء من جعل البرنامج يعتقد بأنه يبحث عن المشاهير. تعمل النظارات من خلال استغلال الطريقة التي تفهم الآلات الوجوه، إذ إن هذه البرامج تعتمد غالباً على تقنية التعلم العميق، وبالتالي تقوم بالبحث في عدد هائل من البيانات عن أنماط متواترة. وفي حالة التعرف على الوجوه، هذا يعني قياس المسافة بين العينين أو الحاجبين أو شكل الأنف. لذلك إذا كنت تعرف ما هي الأنماط التي تبحث عنها الأنظمة، يمكنك خداعها بسهولة.
للّيل أيضاً نظارات خاصة وجميلة طوّرها سكوت أوربان من شيكاغو (أيضاً)، باسم reflectables. تسمح هذه النظارات بإعماء كاميرات المراقبة، وبالتالي تقنيات التعرف على الوجوه، من خلال عكس الضوء والأشعة تحت الحمراء، وهذا يعني الكاميرات الأمنية التي تعمل باستخدام تقنية الأشعة تحت الحمراء وهي الأكثر شيوعاً، بحيث تصبح صورة الشخص مموهة ويستحيل تحديد هويته. لذلك في بيئات الإضاءة المنخفضة، فإن معظم الكاميرات التي تستخدم تقنية الأشعة تحت الحمراء لن تكون قادرة على التقاط ملامح الوجه الخاص بك.
الفنان آدم هارفي يحضّر مشروعاً جديداً للتغلب على هذه الأنظمة وإرباكها من خلال تقديم الآلاف من الوجوه الخاطئة حتى لا يتمكن المراقبون من معرفة الوجوه الحقيقية، وذلك من خلال مشروع HyperFace الذي يقوم على طباعة أنماط مختلفة على الملابس والمنسوجات، لديها عيون وأفواه وغيرها من الميزات التي بإمكان الكمبيوتر تفسيرها كوجوه. وعليه، يسعى هارفي إلى إثقال الخوارزميات بكمية كبيرة من الوجوه لإبعاد الرؤية الحاسوبية عن وجوه الأشخاص. وكان لهارفي مساهمات أخرى في هذا المجال، مثل مشروع CV Dazzle الذي صمّم فيه تسريحات شعر وماكياج مدروسة تمنع الخوارزميات من رصد الوجوه من خلال كسر استمرارية الوجه لأن خوارزميات التعرف على الوجه تعتمد على التطابق والعلاقة المكانية لملامح الوجه الرئيسية، مثل التماثل وتناغم الملامح.
* مهندس وباحث في موضوع أمن الاتصالات والتكنولوجيا