في الانتخابات، الناس ثلاثة: المحسومون، الذين عقدوا عزمهم على من ينوون التصويت له، والمتردّدون الذين يمكن أن يذهب تصويتهم في أيّ اتجاه، والقاعدون الذين قرّروا ألّا يصوّتوا نهائيّاً لسبب أو لآخر. وفي الأعمّ الأغلب، عندما تحتدم الانتخابات، يحسمها المتردّدون. ولهذا نجد أنّ أيّ حملة تتصرّف من منطلق عملانيّ ستوجّه جهدها الأكبر إلى تلك الفئة.
وقد جرت العادة في الماضي القريب، أن يكون الاستهداف لهذه الفئة المتردّدة في العلن، وأن تُرسم الشعارات، وتُرفع اللّافتات، وتُبَثّ الإعلانات والخطبُ لكلّ الناس على السواء، والطمع في أن تسهم المحاولات بالتحديد في إقناع من لم يعقدوا عزمهم بعد. والرسالة أمام الملأ واحدة: سنفعل هذا، ونواجه ذاك، إلى ما هنالك. لكن في الوقت نفسه، كثيراً ما كان المرشّحون بأقنعة متعدّدة حين يلتقون الناس. فيعرضون الفكرة في قرية معيّنة وعكسها في أخرى، والغاية تبرّر الوسيلة. حتى أتتهم كاميرات الهواتف ومواقع التواصل كالسيف، فقطعت عليهم ذلك التلوّن في المواقف، خوفاً من الفضيحة، ولو حتى حين.
وبما أنّ الانتخابات وسيلة للوصول إلى مواقع القوّة، والقوّة كثيراً ما تكون السبيل لحماية المال، فقد سخّرت شركات تكنولوجيا الإعلانات مواردها للوافدين الجدد من عالم السياسة والمال. ووضعت خدماتها في تصرّفهم. والهدف واحد: المتردّدون. والوسيلة: تقنيّة "الاستهداف الدقيق" (أو Microtargeting).

مختبر الانتخابات الأميركي

فلنأخذ الانتخابات في الولايات المتحدّة على سبيل المثال، وهي أكبر المختبرات البشريّة المحاطة بأكبر تجمّع من شركات الإعلان الجديد. تروي "كاثي أونيل" في كتابها "Weapons of Math Destruction"، أو ما قد تصلح ترجمته لـ"أسلحة الدمار بالداتا"، قصّة حملة أوباما الثانية عام ٢٠١١. ففي ذلك الوقت كانت الحملات تمتلك معلومات دقيقة عن كلّ ناخب واهتماماته وخلفيّته. حصلت عليها من الشركات المسمّاة: "سماسرة الداتا". هذه المعلومات هي نفسها التي تُستعمل عادة لبيعك كميّة أكبر من رقائق البطاطا. في حالة أوباما، كانت تبيعك رئيس الولايات المتحدّة.

قد يصل الاستهداف الدقيق في الإعلانات إلى درجة تخصيصه بمناسبة معيّنة

كيف تُستثمر الداتا؟ التحدّي الأساس كان كيفيّة استغلال معلوماتهم عن كلّ شخص لخلق الرسالة المناسبة، ثمّ استهدافه لإقناعه بالتصويت لأوباما. ولذلك فقد قسّموا المتردّدين إلى شرائح، حسب خلفيّاتهم، ثمّ جمعوا بضعة آلاف من القوم وعقدوا حلقات النقاش مع كلّ شريحة، سألوهم عن مخاوفهم وأمانيهم، وعن ما قد يقلب تصويتهم.
الخطوة التالية كانت استخدام برامج معقّدة كي يطبقّوا ما تعلّموه من الآلاف على الملايين من المتردّدين. وفي هذا كان التنافس بين الحملات: أيّ الخوارزميّات هي الأفضل؟ وكيف نجد أكبر عدد من الناس الذين يشبهون ساعي البريد ذاك في نيويورك أو سائق الأجرة في كاليفورنيا؟ في النهاية وضعت الحملة مجموعة كبيرة من الشعارات، التي تناسب كلّ فئة، والتي أتت متناقضة في كثير من الأحيان.

إعلانات فايسبوك في خدمة التلوّن

يُغطّى هذا التناقض في خطوة الاستهداف المباشر. وهنا الاعتماد على التطوّر التكنولوجي في مجالين. أوّلاً، كلّ من لديه بريد إلكتروني، تصله رسالة مخصّصة. وثانياً، تعتمد الحملات على التوجيه الذكيّ لإعلانات الإنترنت (عبر غوغل وفايسبوك وغيرهما) لكلّ فئة على حدة. توفّر فايسبوك لذلك مثلاً كلّ الوسائل، إذ يمكن تحديد العرق المستهدف والمنطقة والعمل، وغيرها من الخصائص (تصل إلى الآلاف). وكذلك يمكن للمعلنين إعطاء لائحة بمعلومات الأشخاص المستهدفين، وتأخذ الشركة على عاتقها ربط هذه المعلومات بحساباتهم على فايسبوك وعرض الإعلانات لهم (خدمة "الجماهير المخصصة من قائمة عملائك"). وتذهب أبعد في خدمة "الجماهير المشابهة"، حيث تعرض الإعلان لأشخاص يشبهون أولئك الذين تملك الحملة معلوماتهم.
وفي هذا الإطار، يُقدّر ما صرفته حملة دونالد ترامب على إعلانات فايسبوك وإنستغرام الموجهة لشريحة الأميركيين الأفارقة وشريحة النساء اليافعات في آخر أسابيع الحملة فقط بـ١٥٠ مليون دولار. ويُقدّر عدد الصفحات التي أُنشئت لتحوي مواضيع مختلفة حسب كلّ فئة بـ١٠٠ ألف صفحة. ويمكن تخيّل الجهد المبذول لخلق محتوى بهذا الحجم. بعض الصفحات للخائفين من المخاطر الأمنيّة، وبعضها للشرائح التي تبحث عن عمل، وبعضها للمهتمّين بالتغيّرات في النظام الضريبي، وهي في كثير من الأحيان متناقضة. لكن كشف ذلك صعب، إذ يراها الناس على حساباتهم الخاصّة فقط، ولا يدري الجار ما يرى جارُه. وفايسبوك رفضت مؤخراً إعطاء معلومات عن محتوى حملات ترامب الموجّهة للأميركيين الأفارقة والتي اعتمدت على تنفيرهم من هيلاري كلينتون عبر رسوم متحرّكة تستخدم صوتها من مناسبة قديمة تهاجم فيها تلك الفئة. أمر شبيه يحصل في بريطانيا مؤخّراً حيث تلهث الدولة خلف الأحزاب ليعرضوا مضمون إعلاناتهم الموجّهة، لكن لا أحد يجيب، فالقوانين ما زالت متخلّفة عن ركب التطوّر في هذا المجال.
وقد يصل الاستهداف الدقيق في الإعلانات إلى درجة تخصيصه بمناسبة معيّنة. ففي حملة "تيد كروز" للرئاسة الأميركيّة مؤخّراً، وخلال انعقاد مؤتمر الائتلاف اليهودي الجمهوري في فندق "ذا فينيشن" في لاس فيغاس، وضعت الحملة إعلانات تقتصر على منطقة الفندق حصراً يشدّد فيها كروز على تأييده لـ"إسرائيل" وأمنها إلى أقصى الحدود.

تجاهل الفئات الأخرى

رغم النجاح الفائق لهذه الوسيلة، والتي بات يندر لأي مرشّح في أي انتخابات الدول الغربيّة أن يصل بدونها، فإنّها تنطوي على عدّة مخاطر. أهمّها أنّ المرشحين يصوغون جُلّ أفكارهم لفئة صغيرة من المجتمع، التي قد تحسم النتيجة. في الولايات المتحدّة هذا يعني بضع ولايات فقط. بينما يتمّ تجاهل الفئات التي لا طائل من صرف المال لإقناعها. فمن لم يصوّت في انتخابات ما، يصبح هدفاً غير مرغوب. والنتيجة أنّ الناقمين على مرشّح ما، أو حتى على النظام السياسي ككلّ لن يتوجّه إليهم أحد، وستتفاقم نقمتهم مع الوقت. إذ هم خارج الحسبان عند من يبحث عن إيجاد أكبر عدد من الأصوات بأقلّ كلفة ممكنة. وبذلك يمكننا أن نطلق على كلّ هذه الأساليب وصف "مزارع البشر"، فنفس الخطوات تُستخدم مع مزارع الدواجن. الفرق فقط أنّ العلف هنا هو إعلانات الفايسبوك.

* للمشاركة في صفحة تكنولوجيا التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]