يشهد العالم اليوم عملية انتقال من الاقتصاد النقدي إلى الاقتصاد غير النقدي، بفضل التكنولوجيا. طرق الدفع في تطوّر مستمر والخدمات المصرفية لن تحتاج في المستقبل إلى مصرف لإنجازها. كل هذا يشكّل جزءاً أساسياً من نموذج أعمال الاقتصاد التشاركي أو اقتصاد الطلب الذي أنتجه التطوّر التكنولوجي الرقمي ضمن مظلة "اقتصاد المعرفة".
لكن وبرغم التقدّم الحاصل خصوصاً في المجتمعات المتقدمة حيث يستخدم الناس الأوراق النقدية بشكل أقل، لا يزال النقد منتشراً بشكل كبير بين أيدي الناس، وهذا الأمر قد يشكّل عاملاً ممتازاً للشركات الراغبة في خوض مجال التكنولوجيا المالية اليوم لأن المستقبل يتجه، عاجلاً أم آجلاً، نحو "موت الـ cash". تشكّل منطقة الشرق الأوسط أرضاً خصبة لهذا المستقبل، لذلك بدأ عدد من الشركات الناشئة بدخول هذا المجال، إلّا أن الأمر يحتاج إلى بيانات وأبحاث تُعطي صورة واضحة عن واقع الخدمات المالية في المنطقة: ما هي الشركات الناشئة اللاعبة حالياً؟ ما هي أبرز محفزات السوق؟ ما هي المجالات التي يجب خوضها؟ وهل البيئة الحاضنة ستتلقّف هذه التكنولوجيا بسرعة؟ أسئلةٌ أجاب عنها "مختبر ومضة للأبحاث" و Payfort، في أول دراسة بحثية في المنطقة تتناول بشكل تفصيليّ هذا القطاع بعنوان "التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: توجهات قطاع الخدمات المالية".

لا يزال النقد
منتشراً بشكل كبير
بين أيدي الناس

FinTech أو التكنولوجيا المالية، هي إدخال التكنولوجيا إلى الخدمات المالية التقليدية بهدف تحسين نوعيتها وقدرة الوصول إليها. عند الحديث عن التكنولوجيا المالية لا يتبادر إلى ذهن الناس سوى بطاقات الدفع الإلكتروني التي شكّلت أبرز خدمات الموجة الأولى لهذه التقنية، إلّا أن الأمر بات يتعدّاها كثيراً. تقسم الدراسة مراحل تطور التكنولوجيا المالية إلى موجتين: اعتمدت الموجة الأولى على المدفوعات وحلول الإقراض التي تقدّم منصات التمويل الجماعي وشبكات الإقراض المباشر وحلول الدفع مثل "Pay Pal" وتدوير المال. من خلال تكنولوجيا المدفوعات بات دفع الفواتير أسهل وأسرع عبر الإنترنت كما استُبدلت النقود الورقية بتطبيقات هاتفية، كذلك أصبحت عملية تحويل الأموال أسهل. كذلك، سمحت التكنولوجيا للناس التي لا تمتلك حسابات مصرفية بالخروج عن سيطرة المصارف من خلال الحصول على قروض عبر منصات إقراض وتمويل جماعي. نتج من الموجة الأولى 13 شركة "يونيكورن"، أي تتجاوز قيمتها مليار دولار، من أصل 17. أمّا الموجة الثانية فقد ظهرت حديثاً، 3 توجهات تشير إلى بدء ازدهارها هي التحويل المالي الدولي، إدارة الثروات والتأمين، "ولا تزال سلسلة البلوكات (التكنولوجيا المستخدمة في التعاملات الرقمية) في أوائل مراحلها، ومن المحتمل أن تلعب دوراً محوريّاً يتعدّى التمويل".
على صعيد المنطقة، سُجّل وجود 105 شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا المالية نهاية عام 2015 في 12 دولة عربية. يتركز 73% من هذه الشركات في 4 دول هي الإمارات العربية المتحدة (30 شركة)، مصر (17 شركة)، الأردن (15 شركة) ولبنان (15 شركة)، وهي تمثّل بنظر الدراسة "مراكز محتملة للتكنولوجيا المالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". خلال السنوات العشر الماضية تم استثمار نحو 100 مليون دولار في مجال التكنولوجيا المالية، وتهدف الشركات الناشئة هذا العام إلى جمع تمويل بقيمة 50 مليون دولار. تتوقع الدراسة ارتفاع عدد الشركات الناشئة في هذا المجال إلى 250 شركة بحلول عام 2020. في الواقع، 84% من مجمل الشركات الناشئة تقدّم خدمات المدفوعات والإقراض، في حين أن 16% فقط دخلت الموجة الثانية.
تحدّد الدراسة خمسة دوافع يمكن أن تشكّل محفزاً أساسياً للتكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط، أولها أن أقل من خُمس الأفراد البالغين يمتلكون حساباً مصرفياً، أمّا الأفراد الباقون فليس لديهم حسابات ما يعني عدم استفادتهم من الخدمات المصرفية. لكن في المقابل يزداد عدد الأفراد الذين يمتلكون هاتفاً ذكياً.
برغم أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تشكل بين % 80 و% 90 من المؤسسات وتوفر %20 إلى % 40 من جميع وظائف القطاع الخاص وفق الدراسة، إلّا أن نسبة إقراضها تبلغ 8% من القروض الائتمانية التي تقدّمها البنوك العربية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذه الإشكالية قد تحلّها التكنولوجيا من خلال منصات الإقراض المباشر والتمويل الجماعي للمشاريع الاجتماعية والإبداعية.
كذلك من المتوقّع أن تنمو التجارة الإلكترونية أربعة أضعاف خلال خمس سنوات ليصل نمو التجارة الإلكترونية إلى 20 مليار دولار بحلول عام 2020، ما سيعزز بشكل كبير الخدمات المالية الرقمية. وأخيراً % 47 من عملاء البنوك أظهروا اهتماماً باستخدام الخدمات التي تقدّمها الشركات الجديدة في مجال المدفوعات والإقراض والاستثمار، كما أن % 88 من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية تسعى لعقد شراكات مع شركات كبرى.
لا تزال منطقة الشرق الأوسط بيئة حاضنة مستحدثة في هذا المجال يتم فيها تمويل الشركات بشكل بطيء في ظل غياب قوانين تسهّل عملها، ما يجعل الشركات الناشئة في مخاض صعب. ما يزيد الأمر سوءاً بالنسبة إلى الشركات المحلية هو أن 20 شركة ناشئة دولية من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا دخلت حتى الآن إلى المنطقة طمعاً بالثروات الموجودة وحجم التحويلات والخدمات المالية فيها، والتنافس مع هذه الشركات صعب، لا بل صعب جداً كما يقول رواد الأعمال في الدراسة.

* للمشاركة في صفحة تكنولوجيا التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]