تقول الأسطورة إنّه عندما حطّ الفينيقيون على سواحل أفريقيا، فاوضت ملكتهم أليسار الملك للحصول على أرض وبناء مدينة، فعرض عليها مساحة تعادل ما يغطّيه جلد ثور. وافقت أليسار وفي ذهنها حيلة، إذ أمرت بأن يأتوا بجلد ثور ويقطّعوه خيوطاً دقيقة، وينشروها على كل ما تغطيه من أراض، فأخذت مساحة شاسعة، وكانت مدينة قرطاج.
مارك زوكربرغ هو أليسار هذا الزمن: بدأ من لا شيء وأنشأ مملكة على مساحة تعادل ما تغطّيه شبكة الإنترنت، التي هي جلد الثور في العالم الرقمي، وأصبحت مملكته هي التي لا تغيب عنها الشّمس.

فايسبوك كمملكة رقمية

عبارة "مملكة" ليست توصيفاً عابراً هنا، إذ هي على النقيض من عبارة "الفضاء الافتراضي" التي يطلقها البعض على فايسبوك. في المملكة هناك حاكم بأمره، له قدرات واسعة. أمّا في الفضاء الرّحب، فليس هناك من يحكم ويقرّر. وهنا جوهر الموضوع، فحتّى لو بدا الموضوع بنظرية المؤامرة نفسها، بات لزاماً أن نضع على طاولة البحث القدرات الحقيقية التي تكمن عند حكّام مملكة فايسبوك على صعيد العالم. والتركيز هنا على قدرتين كامنتين هما: ترجيح كفّة الانتخابات، وضرب معنويّات شعب بكامله.
ففايسبوك، الذي رسّخ نفسه كمملكة مركزية في العالم الرقمي حتّى بات يمكننا تسميتها "فايسبوكستان"، يحوي شعباً يفوق 1,4 مليار شخص من "الأوفياء". يحول شعورهم بالانتماء ومصالحهم دون الهجرة إلى وطن بديل. قانون فايسبوك، الذي لم يصوّت عليه أحد، يحدّد من يحقّ له الانتماء إلى المملكة ومن لا يحقّ، وهو ينفي من يريد إن خالف قواعده، من دون أن يحقّ له بطلب استرحام. العملة في هذه المملكة ليست ورقية تقليدية بل هي معلوماتية، إذ يدفع المواطنون معلوماتهم ضريبة الانتماء إليها، وتستثمر ما تجمعه من خلال بيع هذه المعلومات في عالم آخر هو العالم الواقعي.

من المعرفة إلى التأثير

لكنّ فايسبوك لم يتوقّف عند مرحلة المعرفة، ولم ينظر إلى العالم الواقعي كمجرّد مجال لتثمير المعلومات. ففكرة أنّ فايسبوك يعرف عنك كل شيء تقريباً أصبحت وراءنا. وآخر الأبحاث في هذا المجال، والتي ترفدها بالمناسبة اختبارات الشخصية التي راجت على فايسبوك أخيراً، أظهرت أن ٧٠ صفحة يعجب بها الإنسان على فايسبوك تكفي لمعرفة خصاله بدقة تفوق قدرة رفاقه على ذلك، وأنّه من ١٥٠ صفحة يضع لها "لايكاً" يمكن تحليل الخصال بدقة تفوق ما يُمكن لأحد أفراد عائلته أن يعرفه.
وما هو أمامنا هو مرحلة أخرى، يمكن لفايسبوك فيها أن يستخدم معرفته في التأثير، أي في تغيير الأفراد وحتى التحكّم بمصير المجموعات. وأوّل الغيث كان عبر الاختبارات شبه الخفيّة التي أجراها فايسبوك في السنين الماضية.

٧٠ صفحة يعجب بها
الإنسان على فايسبوك تكفي لمعرفة خصاله بدقة تفوق قدرة رفاقه على ذلك
ترجيح الكفة في الانتخابات

يعود الأمر لعام ٢٠١٠، في وقت الانتخابات الرئاسية الأميركية، حين أجرت الشركة تجربة مشتركة مع باحثين في العلوم السياسيّة لاختبار مدى تأثير فايسبوك في تحفيز الناخبين للاقتراع. اختارت الشركة حوالى ٦١ مليوناً من مستخدميها الأميركيين فوق الثامنة عشرة، وقسّمتهم إلى ثلاث مجموعات: في الأولى (١٪ من العيّنة)، ظهرت للشخص رسالة تتضمّن مراكز الاقتراع وزرّ اسمه "أنا صوّتت" ("I voted")، مع عدد من صوّتوا بشكل عام على فايسبوك. في الثانية (أي ٩٨٪ من العيّنة)، ظهرت إضافة إلى ذلك مجموعة الأصدقاء الذين أعلنوا أنّهم صوّتوا، وفي ثالثة (نسبتهم ١٪) لم يظهر شيء.
اكتشف الباحثون أنّ هذا الإجراء زاد عدد المقترعين بـ ٣٤٠ ألف شخص. قد يبدو هذا الأمر طبيعيّاً للوهلة الأولى، لكن إذا ذهبنا إلى أبعاد هذا الاختبار، فماذا لو كان زوكربرغ وأعوانه في قيادة الفايسبوك مؤيّدين لمرشّح دون آخر؟
لنأخذ المثال اللبناني: ماذا لو قرّر أولئك لسبب ما أن يدعموا أحد طرفي الصراع في لبنان؟ فلنسمّ هذا الطرف (أ) والآخر، غير المدعوم (ب). ببساطة، يمكن عبر تحليل الصفحات التي يعجب بها اللبنانيون تحديد انتمائهم السياسي بدقّة كبيرة. على هذا الأساس، يمكن في يوم الانتخابات أن تظهر رسائل تشجيعية على الانتخاب لغالبية من هم من الفئة (أ)، بينما لا تصل إلّا لقلّة من الفئة (ب). واكتشاف ذلك ليس بالأمر السهل، إذ هناك نسبة مهمّة لم تصلها الرسالة، ولا أحد قادراً على إحصاء ما يظهر للجميع بسهولة.
٧٠ صفحة يعجب بها
الإنسان على فايسبوك تكفي لمعرفة خصاله بدقة تفوق قدرة رفاقه على ذلك

ولو ذهبنا أبعد في هذا السيناريو، يمكن لحاكم فايسبوك المنحاز أن يظهر في لائحة الأخبار كلّ ما يتحدّث بسلبية عن مرشّحي الفئة (ب)، وبإيجابية عن مرشّحي الفئة (أ) وذلك لإقناع المتذبذبين بالاقتراع لصالح مرشّحي الأخيرة. وتحديد نوعية الحديث بات ممكناً عبر تقنيات تحليل اللغة وتحليل المشاعر (Sentiment Analysis)، وتستخدمه الشركات لمعرفة آراء الناس بمنتجاتها على تويتر مثلاً. وفي هذا مساهمة في توجيه الجماهير إلى رأي معيّن عبر "ضغط الأقران"، ويدخل المؤيّدون للفئة (ب)، بناء على ما يوهم به فايسبوك، في ما يسمّى "دوّامة الصمت"، إذ يتّخذون موقف الصمت تجنّباً للعزلة الاجتماعية. وما هو ممكن تحدّه فقط مخيّلة القيّمين على فايسبوك، فتركيز عرض الإعلانات عن مرشّحي الفئة (أ) على مؤيّدي الفئة (ب) قد يحدث تأثيراً أكبر من إظهار هذه الإعلانات عشوائيّاً أو بالتساوي على الفئتين.
وكلّ هذا قد يجرى من دون أن يكتشفه أحد، إذ يظنّ المستخدم أنّ ما يراه هو لائحة الأخبار الطبيعية له، وكذلك فهذا يجرى من دون إمكانية الرقابة من الدولة اللبنانية.
ماذا لو قرّر فايسبوك لسبب
ما أن يدعم أحد أطراف الصراع في لبنان؟ يمكن لحاكم فايسبوك ترجيح كفّة الانتخابات، وضرب معنويّات شعب بكامله

ففي حالة التلفزيون مثلاً، هناك مجموعة برامج وإعلانات محدّدة تصل لجميع المشاهدين، بينما يمكن لوسائل التواصل والمواقع الالكترونية تخصيص كل زائر بشيء مختلف عن غيره. وبشكل عام، لا تخضع وسائل التواصل كفايسبوك مثلاً لقانون الإعلام والإعلان الانتخابيّين اللبناني، الذي يفرض تسليم محتوى الإعلان لهيئة الإشراف على الحملة الانتخابية، أو يدعو إلى تأمين التوازن بين المرشّحين، أو يحدّد فترة الصمت الانتخابي.

ضرب معنويات الجماهير

الاختبار الآخر التي أجراه فايسبوك كان سرّياً هذه المرّة وشمل أكثر من ٦٠٠ ألف مستخدم عام ٢٠١٢. الهدف منه كان دراسة تأثير إيجابية أو سلبية الآراء التي يراها الشخص في لائحة المنشورات على إيجابية أو سلبية الآراء التي يكتبها أو التي يُعجب بها.
بمعنى آخر، هل يُمكن أن تصبح حزيناً وتعبّر عن ذلك إذا كان جلّ ما تقرؤه على فايسبوك ذا طابع حزين؟ أو هل يُمكن أن يُتلاعب بعواطفك؟ فسّرها كما تشاء، لكن النتيجة كانت أنّ هذا ممكن. وهو ما يعطي فايسبوك فرصة تحوير المشاعر متى أراد. وبعد ظهور الدراسة إلى العلن، والصخب الإعلامي الحاصل، أصدرت الشركة اعتذاراً فقط عن "سوء توصيل الفكرة من وراء البحث"، وليس عن إجراء التجربة. هذا الاختبار هو دليل على قوّة أخرى كامنة في فايسبوك، وهي إمكانية تحديد المشاعر. ولنبقَ في المثال اللبناني: ماذا لو وقعت الحرب غداً مع العدو الإسرائيلي، وكان لوسيلة مثل فايسبوك موقف خفيّ تأييداً لهذا الأخير؟ يُمكنها عندها أن تملاً لوائح المنشورات عند اللبنانيّين بمشاعر سلبيّة وتخفي عنهم ما يحفّز معنويّاتهم، وأن تفعل العكس في المقلب الآخر. وقد يمرّ ذلك دون أن يلاحظ أحدٌ ما حصل.

سلاح فايسبوكستان النووي!

قد يعتبر البعض أنّ تلك القدرات الكامنة هي كمثل الأسلحة النووية للدول، فاستخدامها مرّة تجاه عدوّ يمتلك ردعاً مقابلاً، قد يعود على من يستخدمها بالضرر الشديد. وفي حالة فايسبوك، يكون الردع بأن تهجره فئة كبيرة ممّن ضُربت مصداقيته عندها، وبالتالي يخسر ذلك الجزء الكبير من المستخدمين، وهو على الأغلب ما لن يضحّي به القيّمون عليه. ولذلك، فإنّ أيّ تلاعب من جهتهم قد يكون بطريقة خفيّة وتأثير محدود غير قابل للكشف.
بالطبع، هنا لا نقارن فايسبوك بمشروعات بنيت أساساً للعب هذا الدور، مثل مشروع ZunZuneo، أو التويتر الكوبي، الذي أسّسته المخابرات الأميركية لخلق التوتّرات في كوبا. بل الحديث عن تنامي قوّة فايسبوك المركزيّة، وقدرتها الكامنة على إحداث تغييرات مهمّة، من دون رقابة تُذكر.




بحثاً عن حلّ

قد يقول البعض إنّ الحلّ الأفضل هو أن
تضع الدول حدّاً لتمدّد قدرات فايسبوك، ولكن هذا الحلّ ينطوي على إشكاليّات أخرى: فالولايات المتّحدة وأوروبا تملك تأثيراً أكبر على فايسبوك من غيرها، كون مكاتبه فيها. وبالتالي لا يُمكن التعاطي معها كجهات حياديّة من قبل العالم أجمع.
اقتراح آخر كان من Jack Balkin من جامعة Yale، والذي دعا إلى اعتبار فايسبوك وأقرانه، "مؤتمنين على المعلومات"، بنفس الطريقة التي يؤتمن فيها الأطبّاء والمحامون على معلومات الناس. وبالتالي تسري عليهم قوانين تمنع استخدام المعلومات لدوافع خارجية، كالتأثير على خيارات الأشخاص السياسية أو على عواطفهم. الحلّ الأكثر جذريّة هو في تخفيف قوّة فايسبوك المركزيّة وتوزيعها على قوى أخرى، عبر وسائل تواصل جديدة تأخذ نسبة مهمّة من كعكة المستخدمين. على أنّ ذلك كان مصيره الفشل حتّى اليوم، فكلّ تلك الوسائل كانت لها طفرة ثمّ خمدت، من Diaspora وصولاً إلى Ello.
في النهاية، قد يكون أضعف الإيمان هو في إثارة هذه المواضيع، طمعاً في ارتداع الشركات الكبرى عن القيام بذلك، وزيادة للوعي المجتمعي حول أخطار وضع كلّ القوّة في جهة مركزيّة واحدة.
قد يكون مارك زوكربرغ رجلاً بريئاً من كلّ استخدام سيّء لقدراته الكامنة، وقد لا يكون. وفي الحالتين فالحذر واجب. فمعظمنا يحلم بأن يكون خُمس البشريّة مجال اختبار عنده، وأن يمتلك قوّة التأثير تلك، وأن يستخدمها بكلّ حرّية، لكنّنا في المقابل نرفض استخدامها ضدّنا، وهذا شيء طبيعي، فالقوّة مغرية، وما يمنع من استخدامها قد لا يكون إلّا الطمع في المزيد من القوّة.