تنهار عوالِم، وتقوم عوالم أخرى عوضاً عنها. يتقوّض بناء عوالم كانت قائمة ردحاً من الزمن، أحبّها جزءٌ ممَّن فيها، أولئك الذين تبوّؤوا فيها مكانةً وسطوا عليها وفصّلوها على مقاساتهم فيما كرهها الذين كانوا ضحايا قيامها، وضحايا انهيارها كذلك. حين ينهار عالمٌ ما، وليس من الضروري أن يكون هذا «العالم» مكاناً، بل قد يكون زمناً أو عصراً، أي حقبة من الزمن، سوف يخلّف وراءه ضحايا انهياره. ومن المعلوم في التاريخ أنه في كل قيامٍ لعالمٍ جديد، كان لا بدّ من تسديد أثمانٍ رهيبة. لا بدّ من ضحايا كثر، لا يذكرهم التاريخ، بل يذكر أولئك الذين شيّدوا عالماً جديداً، بتعب أولئك الذين تمّ تهميشهم. تلك هي الصيرورة التاريخيّة التي وجدنا العالم يسير وفقاً لها: إننا لا نعرف اسماً واحداً من الملايين الحقيقيين الذين شيّدوا العالم الذي نحن فيه، العالم الذي ينهار، وحين يقوم عالمٌ آخر، ويجيء أناسٌ غيرنا، سوف يقولون كذلك: إننا لا نعرف اسماً واحداً من الملايين الحقيقيين الذين شيّدوا العالم الذي نحن فيه. تلك هي الصيرورة القبيحة التي وجدنا العالم يدور في فلكها.

«اضمحلال» لمات سيسو

عند آخر انهيار قد يدرك إنسانٌ ما الحقيقة، سوف يكتشف سوء العالم الذي يعيش فيه، ويعرّيه، ومن الممكن أن يقدّم نفسه ضحيّة في سبيل نشأة عالم جديد أكثر رأفة، عالم ليس مشوّهاً أو ظالماً، بل هو مختلف عمّا ألفه. أشهر مثال على ذلك: الملك لير، الذي عرف تشوّه زمنه وعالمه، وتخلّص عبر رحلة المعرفة والتعرية التي خاضها من شروره القديمة، ثمّ راح ضحيّة نشوء عالمٍ جديد: عالم النهضة.
على الطرف الآخر، من الممكن أن يذهب ضحيّة نشأة عالمٍ جديد ضحايا لا يعرفون أنهم كذلك، يذهبون ضحايا بالمجان، لا علم لهم، وهؤلاء كثيرون. وقد نكون منهم، أو كنّا منهم، في يومٍ من الأيام.

لير يعرّي عالمه
يقول شكسبير إنّ مسرحيّته «الملك لير»، تدور في بريطانيا في عهدها الوثني، رغم أننا نعرف أنّ المقصود فيها هو القرون الوسطى، قرون الظلمات والاضطهاد والبؤس بالنسبة إلى أغلب مَن عايشها وشهد مآسيها، خلاف ما يذهب إليه أمبرتو إيكو في أنها عصرٌ ذهبي بالنسبة إليه، على صعيدٍ ما.
ثمة في المسرحيّة لحظتان من الانهيار، لحظة يعرّي الملك لير زمنه، ويفضح حقيقته، ولحظة يسقط هو وابنته كورديليا ضحيّتين لانهيار عالمهما، ولنشأة عالمٍ جديد وزمنٍ جديد، هو عصر النهضة. يُعَد مشهد العاصفة الذي قدّمه بنجامين ويست في لوحة لير في العاصفة، أشهر مشاهد المسرحية، وفيه يكتشف الملك لير حقيقة زمنه، حاملاً بذوراً للفكر الاشتراكي، حسب رأي الأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية مصطفى عبود.
يقول لير: «أيها التعساء العراة المعدمون، أينما كنتم، وأنتم تحتملون ضربات هذه العاصفة التي لا ترحم، أنّى لرؤوسكم بلا مأوى وجوانبكم بلا طعام، وشعثكم (ملابسكم) مثقّب مخرّق، أن تقيكم هول مواسم كهذه؟ آه ما أقلّ ما عنيتُ بهذا! اجرعي الدواء يا أبهة. نفسك عرّضيها لتحسّي ما يحسّه التعساء، لعلك تنفضين كل فيض عنك لهم، فتبدو السماوات أكثر عدلاً وقسطاساً». وبعد ذلك، حين يدخل الرجل إدغار الكوخ، عارياً، يسأل الملك لير سؤالاً يتردد صداه: «أهذا هو الإنسان كلّه؟... تأمّلوه جيداً.»
يقول مصطفى عبود إنّ وراء كل مسرحيات شكسبير كان يكمن مشروعٌ خاص وشخصي، هو بحثه عن بطلٍ إيجابي، قادر على تقويض عالم شرير، وقادر كذلك على أن يكون ضحيّة هذا التقويض وقيام عالمٍ آخر. ويذهب أيضاً إلى أنّ شكسبير لم يتمكّن من العثور على بطله. لقد بدأ بحثه في التاريخ هادئاً، عاد إلى أبطال اليونان ثم الرومان فلم يجد ضالّته، ولم تكن نبرته حادّة إلى درجة القسوة التي بلغتها في بحثه عن أبطالٍ معاصرين، أبطال زمنه الخاص، مثل هاملت وماكبث والتراجيديات التاريخية. العالم في الملك لير أسود، قاتم، الصوت هائج، والرؤية ناريّة. يمكن الافتراض هنا، بقراءةٍ موازية، أنّ شكسبير كان قد فقد أمله، ونفض يديه من البحث عن أبطال زمنه، ضربة اليأس هذه، في لحظة، هي التي تركت البطل الذي كان يبحث عنه، دون أن يعرف. إنّ لير ضحيّة العالم الذي عاش فيه، وله قوانينه ومثالبه، ولكنه إلى حدٍّ أبعد ضحية العالم الجديد الذي نشأ، بشكلٍ أو بآخر، نتيجة قبوله، مع ابنته كورديليا، أن يكونا ضحيّة قيام هذا العالم. يبقى هذا افتراضاً، ولكنه افتراض موجع، لأنه يقوم على أنّ إنسانين قدّما نفسيهما قرباناً للنور، فيما هناك ضحايا آخرون، لا يمكن الوصول إليهم، لا حقيقةً ولا افتراضاً.
يتركنا لير مع السؤال: «من هم الضحايا؟ أهذا هو الإنسان كلّه؟» بل ظلُّه. هذا هو ظلُّ الإنسان. في محاولات التأريخ، تتردّد مقولتان: كان عالمٌ ذات يوم قائماً، وانهار، فنشأ عالمٌ آخر عوضاً عنه. من هم ضحايا هذه الانهيارات؟ لا إجابة.
يمكن طرح السؤال عبر محرّكات البحث، لن نقرأ أسماء، ولن نعرف وجوهاً في الغالب. يتمّ ذكر أرقام: اثنا عشر ألفاً راحوا ضحيّة كذا، وخمسون ألفاً راحوا ضحيّة كذا، ومليون راحوا ضحيّة كذا... على هذا النحو من التعداد الرقمي المخيّب. في الحروب تنهار عوالم، وتنشأ عوالم، لكننا لم نقرأ مرة اسماً من أسماء أولئك الحقيقيين، المساهمين فعلاً بنشأة عالم جديد أو انهيار آخر.
بعد أن أدرك الملك لير الحقيقة، وعرّى عالمه وزمانه، مات ضحيّة هذا الاكتشاف. راح ضحيّة عالمه، وضحيّة نشوء العالم الجديد، عالم عصر النهضة، الذي نفض عنه عقل القرون الوسطى، سواء في قوانين الوراثة، أو ظلم الإقطاع، أو مفهوم النبل والمكانة.
ورغم أنّ ابنة لير، كورديليا، أشهر نساء شكسبير بطيبتها، لم تكن تعرف حقيقة زمنها، ولم تعرِّه، إلا أنها ماتت كذلك ضحيّة نشوء عالمٍ جديد، ضحيةً مجانية، وهؤلاء كثيرون، قد نكون منهم، أو كنا منهم دون أن ندري ذلك، في زمنٍ ما، مثلما كان ساشا فيليبوف.

البحث عن الضحايا
يسرد فيلم Enemy at the gates قصة القناص فاسيلي غريغوريوفيتش زايتسيف (1915 - 1991) أي الأرنب البري باللغة الروسية، وكان رقيباً أولَ في الكتيبة الثانية، فوج البندقية 1047، فرقة بندقية تومسك رقم 284، خلال معركة ستالينغراد.
رغم أنّ الكتاب نفسه الذي يقوم الفيلم عليه يثير شكوكاً كثيرة، وهو للمؤرخ ويليام كرايغ، بعنوان «العدو عند الأبواب: معركة ستالينغراد»، وقد اعتبره أنتوني بيفور ضرباً من الخيال، مع ذلك، فإنّ القناص فاسيلي زايتسيف كان موجوداً في التاريخ، ومعروفاً.
يمرّ دور الطفل ساشا فيليبوف في الفيلم مروراً عابراً، رغم أنه الضحيّة الكبرى، والتي كان موتها عاملاً في انهيار عالمٍ ما، عالم ألمانيا في ستالينغراد.
يدّعي الفيلم أنّ الألمان أرسلوا أفضل قنّاصتهم لملاحقة زايتسيف، وهو إرفين كونيغ. وظّف الروس الطفل ساشا جاسوساً لهم، من خلال تقريبه من كونيغ، وكان الأخير أيضاً يظنّ الطفل ساشا جاسوساً لديه، لكن حين يكتشف العكس، يقوم بشنقه. وحين يرى زايتسيف جثة الطفل، ينهض نهضة البطل المعتادة، وينتقم من القناص الألماني، وبموت الأخير، ينهار عالم ألمانيا في ستالينغراد.
إنّ الطفل ساشا، الذي لا يُعار اهتماماً كبيراً، هو ضحيّة انهيار العالم الألماني في روسيا، ونشأة ستالينغراد سوفياتية جديدة، تخلو من الاحتلال الألماني. وساشا من أولئك الذين لم يكونوا على دراية أنهم ضحايا انهيار عالم، ونشوء عالم، إنه مثل كورديليا، وامتدادٌ لأطفالٍ حقيقيين، لم يكونوا على دراية أنهم ضحايا شيءٍ ما. كما أنّ تاريخ موت زايتسيف الحقيقي، عام 1991، يحيلنا إلى أمرٍ شبيه... لقد مات سنة نهاية الحرب الباردة، وهو يشهد انهيار عالمه الخاص، عالم الاتحاد السوفياتي. مات قبل أيامٍ فقط من انهيار هذا العالم بشكلٍ كلّي.
تلك هي صيرورة التايخ: انهار النظام الإقطاعي في القرن الخامس عشر في أوروبا، ونشأ عالم المانيفاكتورة، الرأسمالية الصاعدة، البرجوازية. ثمّة في التاريخ، دائماً، لحظة انهيار عالم من أجل نشوء آخر: عالم العبيد والأسياد في مجتمعات الرقيق والدخلاء من المجتمعات القديمة، عالم العامة ومُلاك الأراضي، عالم الطبقة الثالثة وطبقة النبلاء في الثورة الفرنسية، عالم العمال وأصحاب العمل في المجتمع الرأسمالي الحديث، عالم الطوائف في الهند، عالم المستوطنين والسكان الأصليين في المستعمرات، عالم الشمال وعالم الجنوب، عالم أدباء الدولة في الصين القديمة وتعاليم لاوزي وعالم الإمبراطور... العالم اليوناني، ثم الروماني، ثم القروسطي، ثم النهضة، ثم العقل، ثم التنوير... وكذلك يُساق الأمر إلى الحركات الأدبية والفكرية والفنية والمدارس الفلسفية. إنّ السؤال عن ضحايا كلّ انهيار يبدو ضرباً من الجنون، لأننا نعرف أنه لا يمكن إيجاد أسماء.
أهمل برتولت بريخت مشروع شكسبير الكبير، ولم يقم له وزناً. ذهب أبعد من ذلك إلى حدّ تقويض هذا المشروع بجملة ترد في إحدى مسرحياته، تقول بما معناه: «الأمة التي تحتاج إلى أبطال لا قيمة لها». مع ذلك، فإنه بشكلٍ أو بآخر، كلٌّ منا يبحث عن هؤلاء الضحايا، حتّى بريخت نفسه، ولا سيما في مسرحيته «الأم شجاعة»، حين جعل كاترينه الخرساء تموت وهي تقرع الطبول لإعلام أهل القرى أنّ الأعداء هنا. تلك هي أكثر لحظة دراميّة في مسرح بريخت الذي ينفض عنه أيّ دراما، لحظة شبيهة بالعاصفة الشكسبيرية، التي تُخطرنا أنّ هؤلاء ضحايا شيءٍ كبير، ضحايا انهيار ونشوء عوالم أو أزمنة بأكملها.

«يجب أن نكون قادرين على تصنيفك»
لو كان العالم مقبلاً على الانهيار اليوم، مَن سيكون ضحية هذا الانهيار؟ وَمن هم ضحايا الانهيارات السابقة؟ ثمة أجيال كاملة كانت ضحيّة نشوء عالم الميديا، مثلاً. إن التاريخ، ليس دائماً قفزة إلى أمام، بل قد يكون ردّة إلى الوراء في أحيانٍ كثيرة، أو دائماً ما يكون كلا الأمرين معاً.
حاول كيمتون بانتون في عامه الستين لفت نظر حكومة بريطانيا إلى كبار السن والمحاربين القدامى، الذين كانوا ضحيّة التلفاز، وضحيّة الرخصة التي تمّ فرضها على امتلاك تلفاز، ففقدوا التواصل مع الآخرين. ومثل أولئك، ثمة مئات الآلاف من الذين كانوا ضحيّة نشوء عالم الميديا، القائم على اللحظة الراهنة، والترند، والتفاهة إلى حدٍّ كبير. إنّ عالم البلوغرز وصنّاع المحتوى وغيرهم، بوصفه نهضة وقفزة تاريخيتين إلى أمام، هو ردّة ورجعة في التاريخ بالنسبة إلى كثيرين آخرين، فقدوا التواصل، وصارت كلّ قضاياهم خاسرة. يمكن افتراض أنّ مشروع شكسبير، بواحدٍ من أوجهه، هو محاولة للتصنيف: أبطال، ضحايا، أبطال ضحايا، أشرار. أكثر من مرّة يقترب فيها من هذه المحاولة، حيث تكاد تبدو صريحة ومُعلنة، هي في تاجر البندقية، شايلوك. ومثله مشروع بريخت الملحمي ثم الجدلي الذي يبرز في مسرحيتيه الشهيرتين «غاليله »و«الأم شجاعة» وأيضاً هو محاولة جدلية للتصنيف.
لقد دأب كتاب ومفكرون وفلاسفة على فكرة التصنيف، على اختلافاتها، وعلى اختلافات النتائج، ربما منذ اللحظة التي تمّ فيها اختراع الكتابة إلى اليوم. في المرويّات والسرديّات كلّها ثمة تصنيف، وبين الاعتقادات والحريّات، وكلّ ما يمكن للإنسان أن يكونه أو يختاره أو ينتمي إليه أو لا ينتمي إليه، ووجوده في التاريخ، في لحظة زمنيّة ما.
حتى مشروع آلان دونو يمكن اعتباره كذلك. محاولة لتصنيف التافهين وضحاياهم، ضحايا نظام التفاهة. يكتب دونو في كتابه «نظام التفاهة» جملة تقول: «يجب أن نكون قادرين على تصنيفك»، وفي مكانٍ آخر يكتب: «لقد تبوّأ التافهون موقع السلطة». انهار عالمُ ما قبل التفاهة، حتى نشأ عالمُنا التافه، العالم الذي تبوّأ فيه التافهون موقع السلطة. انهار عالم ما قبل الترند، لينشأ عالم الترند. وقبل ذلك انهار عالم ما قبل الكاميرا، لينشأ عالم الكاميرا واللقطة والخلود المُصوَّر، كما انهار عالم البطء لينشأ عالم السرعة، كما يذهب ميلان كونديرا في روايتيه الخلود والبطء.
إنّ التافهين أنفسهم، والذين يريدون أن يكون لهم أيّ دور أو فاعليّة، مهما كانت على السطح، هم ضحايا الميديا نفسها، التي تجعل الإنسان في حالة منافسة دائمة، وفي إحساسٍ دائم بالذنب. كذلك فإنّ ضحايا نشوء الميديا، كثيرون، وهم أولئك الذين شهدوا عملية تفكّك التواصل البشري الحميم، وانهيار الشعور الجمعي، الحقيقي، الحسّي، وانهيار الشعور الكلّي، وكيف تبوّأ التافهون سلطة عالمهم. يحاول كتاب دونو أن يروي حكاية بسيطة: نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلّق بسيادة نظام أدّى، تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.
لقد تغيّر الزمان، فلم يعد هناك اقتحام للباستيل، ولا شيء يُقارن بحريق الرايخستاغ، ولم يعد ثمة ملك يعرّي زمنه. إنه زمن صندوق باندورا، والبكاء على يوتيوب، وتنمّر هيلي بيبر على سيلينا غوميز (أليس هؤلاء الذين ضغطوا على «unfollow» لبيبر، يحسبون أنفسهم أبطالاً وغيّروا شيئاً ما في حركة التاريخ؟)، وفيديوهات نهش الطعام، ومنصات المقالب، والصدمة، ورامز جلال (الذي لا ينتهي أبداً؟)، وياسمين عز، وآل حديد، وآل كارديشيان، ومئات الـ، chefs (الطهاة)، وغيرهم.
إن مشروع شكسبير الذي افترضه مصطفى عبود، تقوّض، وصار البحث لا عن بطلٍ إيجابي، أو ملكٍ يعرّي زمنه فيهدمه ويقيم آخر، حتّى التصنيف المُفترض وراء هذا المشروع ومشاريع آخرين، اختلف كله اليوم. إنّ جملة دونو اليوم «يجب أن نكون قادرين على تصنيفك» تعني واحداً من احتمالين: إما واحد من التافهين الذين تبوّؤوا موقع السلطة، أو ضحيّة لهؤلاء.
ومن جديد يبرز التاريخ من خلف الباب، ليثبت أنه ليس بالضرورة أن يكون قفزة إلى أمام، بل قد يكون ردّة ضخمة إلى الخلف.