في فيلم الإسباني بيدرو ألمودوفار الأخير «الصوت البشري» (2020) The Human Voice، وهو فيلم قصير وأول أفلامه بالإنكليزية، تحدّثُ امرأة (تيلدا سوينتن) حبيبها السابق في الهاتف أملاً في أن يعود إليها ولو لمرة أخيرة قبل أن يرحل إلى حبيبته الجديدة للأبد. الفيلم مأخوذ عن مسرحية بالعنوان نفسه للمسرحي الكبير جان كوكتو، لكنه يذكّرنا بمسرحي آخر هو صموئيل بيكيت وتحديداً مسرحيته الإذاعية «جمرات» Embers (1957). في المسرحية نجد هنري الذي قرّر أن يكرّس حياته فقط للعيش على أحد الشواطئ، خائفاً من البحر بكل ما يمثله له من عذاب الماضي، ومهمة هنري الوحيدة هي الحديث، مع من؟ مع الغائبين: أبيه، زوجته وابنته. الحديث معهم، أو في الحقيقة محاولة استدعائهم من جديد، تماماً كما تحاول بطلة ألمودوفار في الفيلم، استدعاء حبيبها، أو لنكون أكثر دقة محاولة التواصل معه عن بعد، تماماً كما يحدث لنا الآن في ظل جائحة كورونا التي جعلت من العالم غرفاً معزولة تحاول أن تتواصل مع بعضها عن طريق Zoom مثلاً حفاظاً على المسافة الآمنة المطلوبة.
تيلدا سوينتن في مشهد من «الصوت البشري» لبيدرو ألمودوفار

بدورهما، يحافظ بطلا ألمودوفار وبيكيت على تلك «المسافة الآمنة» ولكن بشكل آخر. ففي مسرحية بيكيت يدرك هنري أنه في النهاية لن يجد ما يبحث عنه في الماضي أو في تلك الشخصيات القادمة منه، لأنه في الأساس لم يكن مستمتعاً بوجودها في الماضي. بطل بيكيت هنا لا يبحث عن الخلاص، بل يبحث عن صورة رومانسية صنعها من الماضي، تماماً كما نفعل حين نبحث عن وضع سابق أفضل قليلاً من الوقت الحالي، لكنه ليس بالضرورة أن يكون وضعاً مريحاً في أي حال من الأحوال. أما بطلة ألمودوفار فهي مدركة تماماً أن الوضع السابق لن يعود أبداً، هناك مسافة خُلقت بينها وبين ماضيها ولا مجال للعودة إطلاقاً، كل ما تريده فقط هو أن يعود لها حبيبها لأخذ حقائبه، لكي تراه ولو لمرة واحدة أخيرة كاختزال تام للحياة في لحظة واحدة.
لكن في محاولاتنا نحن في خلق ذلك التواصل لم نجد بديلاً للتكنولوجيا، بكل ما تمثّله من أصوات زائفة، أو لنقل أصوات ليست بشرية حتى ولو كان مصدرها البشر. مقابل هنري الذي يتجرّد من الحياة ويكرّس ما تبقّى من أيّامه للجلوس عند البحر، نجد بطلة ألمودوفار تغرق أكثر وأكثر تحت غطاء الحياة الزائف بما تمثله في الفيلم من ديكور فخم وأجهزة الكترونية. إنه وجه فقط من دون قلب، وهو ما يكشفه لنا ألمودوفار في بعض المشاهد حين تخرج بطلته من شقّتها التي يتضح لاحقاً أنها ديكور حقيقي.
حين نرى التجريد الذي يتّسم به عالم بطل بيكيت، وكأنه يصل به إلى عصر بدائي فيحنّ ذلك الإنسان إلى عصر أقل بدائية خارجياً، لكنه مليء بالهمجية من الداخل. حين نرى كل ذلك لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من أن نلاحظ أن ردة الفعل الأولى لبطلة ألمودوفار تجاه غياب حبيبها هو شراؤها لفأس وتمزيقها بِزّة حبيبها الملقاة على السرير، هو أيضاً فعل بدائي تماماً، لكنه في الحقيقة فعل مزيف، فعل تشهد عليه جميع مسرّات الحياة التي أحاطت بها البطلة نفسها بينما تحاول أن تصنع انتقاماً مزيّفاً، إنه أشبه بما نفعله أحياناً حين نقرّر أن نغلق صفحة تواصلنا على فيسبوك أو نحذف جميع صورنا على إنستغرام، فعل بدائي –أو هكذا يبدو- لكنه بلا أثر حقيقي.
إذا كانت محاولات التواصل في كلٍّ من الفيلم والمسرحية هي محاولات أخيرة لكنها في الطريق الخطأ، فإننا على العكس، نستمر في محاولاتنا المستميتة في صنع تواصل حقيقي لن يحدث أبداً، هو تواصل مزيّف يحكم علينا أن نبدأ كل يوم جديد، بأمل جديد، أن نستقبل Like من شخص ما أو Emoji.
اللافت أيضاً أننا كمتلقّين للفيلم والمسرحية نتحوّل إلى جزء أساسي منهما، أي إلى بطل آخر. ففي الفيلم، لا نسمع حبيب البطلة أبداً، بل نسمعها هي فقط، وكأنها تحدّث بطلاً صامتاً؛ نحن. ورغم أننا نعرف أنه –حبيبها السابق- موجود بالفعل ويكلمها، إلا أن هذا ما يجعلنا طرفاً ثالثاً لكن داخل هذه التجربة، لا يمكننا أن نردّ على البطلة حقاً، لكننا بشكل ما نصبح انعكاساً للاثنين معاً: البطلة وحبيبها. أما في المسرحية الإذاعية، فإن كل ما يحدث هو عبارة عن أصوات تأتي للبطل، لا تتجسّد في هيئة بشرية، تجربة تذكرنا برواية خوان رولفو الأهم «بدرو بارامو» التي هي عبارة عن أصوات أشباح يستقبلها بطل الرواية حين يعود إلى قريته المقفرة. ولأن المسرحية هي مسرحية إذاعية في الأساس، فإننا في الحقيقة هنري آخر، نستقبل كل شيء مثله تماماً؛ صوت البحر، صوت الشخصيات من الماضي. تتحول ذكرياته –التي تتشابه مع ذكرياتنا بالتأكيد- إلى جزء من ذكرياتنا، وتتحول مناجاته إلى مناجاة صامتة لنا نحن المستمعين.
على عكس بطل بيكيت الذي لا يرحل عن مكانه، ساقطاً داخل تلك الدائرة التي لا تنتهي، تقرر بطلة ألمودوفار أن تنسحب من عالمها بعد أن تدمره تماماً تاركة بيتها الجميل وهاتفها وكل أجهزتها لتأخذ معها فقط كلب حبيبها، وكأنها تقترب أكثر إلى الطبيعة، ذلك العنصر الذي كانت تفتقده في عالمها السابق. ربما في مرحلة ما من حياتنا سنحتاج إلى أن نعود إلى تلك الطبيعة.
في مسرحيته، يدمج بيكيت بين ثلاثة أزمان: الماضي المتمثّل في الشخصيات التي يحاول هنري أن يستدعيها، الحاضر الموجود بالفعل طوال المسرحية والذي يمثّله صوت البحر المستمر معنا طوال الوقت والذي يتخلل أسماعنا في فترات الصمت، كرنّة مزعجة في آذاننا، والمستقبل الذي يمثله هنا الخيال، أو الحكايات التي يؤلفها هنري لكي يمرر الوقت، والتي، مثل حياته تماماً، لا تفضي إلى شيء. فهي ليست واضحة المعالم ولا نعرف نهايتها أبداً، إنها مجرد دوائر أخرى يضيفها بطل المسرحية إلى دوائره الشخصية. أما في الفيلم، فنرى بطلة ألمودوفار خارج الزمن، كأنها مطرودة بالفعل. بين حبيب/ ماضٍ يرفض أن يعود إليها، وحاضر/ ديكور مزيف تخرج وتدخل منه وإليه مرّات عدّة وكأنه يلفظها وتلفظه، ومستقبل تخرج باتجاهه للمرة الأولى، مولودة من جديد، دون درع أو فرصة للعودة إلى الوضع السابق.
ربما إذا أمعنّا النظر، سنجد أننا نشبه هذين البطلين في نقطة الزمن تلك، مع اختلاف بسيط هو أننا نعود إلى الماضي، إلى النوستالجيا، ونحلم بالمستقبل، بالأمل، لأننا في الحقيقة غائبون عن الحاضر، منزوعون عنه. في البداية بمحض إرادتنا، هرباً إلى عوالم أخرى إلكترونية في أغلب الأحيان، لكننا الآن مع الظروف المحيطة نهرب منه دون إرادتنا، ونحاول أن نتواصل مع الماضي والمستقبل، باحثين عنهما في داخلنا وداخل دوائرنا الاجتماعية، لأننا كما يقول إليوت في الأرض الخراب: «نعرف فقط كومة من الصور المتكسّرة» لعلنا يوماً ما نصنع منها عالماً مستقراً.