تكاد تكون الأغنية الرحبانية «بكتب اسمك يا حبيبي»، وجهة نظر واحدة لشخصيّة واحدة. نحن نعرف الحكاية التراجيديّة في سقوط البنت إلى نسيانها من وجهة نظرها، فيما لم يفكّر أحد من قبل بإجراء قراءة ضدّية تعيد اعتبار الآخر المُنادى، وتجعله ينطق بما سكت عنه حيناً من الزمن. تُصرِّح البنت بعد سقوطها في النسيان، بلهجة تكاد تكون أقسى من العتاب، أنها تمّ نسيانها، واسمها قد انمحى من سجلّات الطبيعة الخالدة، فيما كانت تصبو إلى الخلود، لا خلودها وحدها، بل خلود حكاية العشق التي عاشتها، وهذا في ما نعرفه طموح أيّ عاشق، ومن أجله تتّخذ البنت تدابير دنيويّة - قدسيّة ذكيّة، فهي تكتب اسم حبيبها على «الحور العتيق»، الشجر الضارب في جسد الزمن.والحور، لوحٌ ممتاز لتدوين حكاية حب لا تريد بطلتها أن تزول. أما بطلنا، فهو يكتب اسمها على «رمل الطريق». من هذا التصريح الذي يأتي في مطلع الأغنية الرحبانية سوف نتعرّف على شخصيّة نكاد نحقد عليها، مأخوذين بدنيويّتها وعبثيّتها، فرمل الطريق ليس مكاناً لكتابة اسم الحبيبة، ولكن: هل يفكّر العاشق المأخوذ بفتاته أنه عمّا قريب سوف تُمطر الدنيا ويزول اسم البنت؟ لا أظنّ ذلك. ويمكن القول إنّ الاندفاع يسيّر البطل، وبشيءٍ من القراءة المُضادة لحكاية البنت، يمكن التقرير أنّ الشاب يريد للحكاية استمراريّتها. إنه يريد لها أن تبقى تدور في الزمن، الآن وهنا، حسب ما يجيء في قصيدة هوراس Carpe Diem، أي: اغتنام اليوم.

رسم (ميليسا شهوان)

فيما البنت تبحث عن خلودها، عن أسطورتها، ولذلك سوف تحكي عن حبيبها لأقدم مصدرٍ للقصص: البشر. هذا كفيلٌ بأن تنتقل الحكاية من جيل إلى آخر، فالحكاية الشفوية لا تفنى. لكن: ألا يبدو ذلك تدبير تمّ التفكير فيه بعدما عرفنا الفعل الأول «الكتابة على الحور العتيق»؟ إذاً، يسيّر البنت تفكيرها في الخلود، لا في الزمن الراهن، ومن جديد سوف يدلّنا تقريرها إلى الشاب أنه مأخوذٌ في الحكاية لدرجة أنه يحكي لنبع الماء عنها، ألا يمكن أن تكون خشيته من الحسد هي التي منعته من الحديث عنها إلى الناس؟ إنه يختار عناصر طبيعته الخاصة، التي سوف تستمع بكثيرٍ من الاهتمام. وذلك يبدو أكثر نبلاً من فعل البنت التي صرنا على دراية أنها تبحث عن خلودها الخاص، فهي مُصابة بالحسرة لأنّ نبع الماء لن يحكي اسمها في ليالي السهر. أما أهالي الحي، فسوف يتكلّمون عن البطل، لأنها كلّمتهم عنه من قبل. ولا يبدو - من لهجة عتابها - أنها قد أفصحت عن حكايتها لاندفاعٍ أو رغبة بالتصريح من أجل التصريح، أو من أجل الإدلاء أمام العالم كلّه أنّ هذا هو حبيبي. إنما - وبناءً على ما جاء في كلامها بعد ذلك - فإنها قد أفصحت لرغبةٍ في نفسها في الخلود، وهي تنتظر خطوة مماثلة من حبيبها، إلا أنه لا يفكّر في الطريقة نفسها. فهو لا يعنيه الخلود بقدر ما يعنيه استمرار الحكاية، ولا يعنيه أن تصبح الحكاية شهيرة في عيون الناس بقدر ما يعنيه أن تستمر، وقد يكون ذلك ما يدفعه إلى أن يحدّث عناصر من الطبيعة عن حبيبته، فنبع الماء - كما جاء عند هرقليطس - لن ننظر إليه مرّتين. ورمل الطريق كذلك، سوف يمحي الاسم عند المطر، ذلك ما يحثّنا على الاعتقاد أنّ العاشق راغب في إعادة كتابة الاسم أكثر من مرّة. في تصريح البنت الأخير، سوف ننتقل إلى مناحٍ أكثر شخصيّة، تدلّ على البطلين قبل أيّ شيء آخر. فالبطل، أهداها وردة واحدة، إنه مهتم إذاً برمزيّة الأشياء وروحانيّتها، ومرة جديدة، جعلت البنت أصحابها يرون الوردة. إنه الوله في إظهار الحكاية للبحث عن الخلود الشخصي. في المقابل، كانت هديّتها «المزهرية» تُفصح عن ماديّتها، وليس إهمال البطل للمزهرية أمراً يمكن لومه عليه، فهو مهتم برمزيّة الأشياء، أي: هو مهتم بفكرة المزهرية، وحتى لو ضاعت، فسوف يبقى أثرها محفوراً فيه. هذا ما صرنا ندركه جيّداً من اندفاع البطل في تصرّفاته السابقة، وبحثه عن الاستمرار. ويمكن القول إنه أهمل المزهرية من أجل مزهرية أخرى، ونراه يحارب من أجل ألّا تقع الحكاية في ماءٍ راكد، ألّا تصير أسيرةَ أبديةٍ مملّة تحتفظ بأشيائها القديمة وتكتفي بها. ولأنه لا يعرف كم يحبّ البنت، فذلك دليلٌ كافٍ على انعدام النزعة الماديّة لديه، فهو حتى لم يقل، على غرار عشّاق العالم، بأنه يحبّها كما لم يحبّ أحدٌ من قبل. لقد صرّح ببساطة بأنه لا يعرف. تبدو بطلتنا التراجيدية بادئ الأمر إغريقية، من حيث سقوطها في المأساة، وفق أرسطو. لكنها لا تُسيَّر بواسطة القدر كما الأبطال الإغريقيين، بل إن ذاتها هي التي تقرّبها من سقوطها. إنها إذاً شخصيّة أقرب إلى الرومانية - الشيكسبيرية منها إلى الإغريقية، حيث تسقط في المأساة لعيبٍ في نفسها. والعيب الذي يُدنيها من هذا السقوط هو رغبتها في الخلود، الخلود الذي يعاندها فينساها، ولا يكتفي بذلك فقط، بل يجعل الزمن ينساها. مَن يمكن أن تلقي باللوم عليه غير حبيبها؟ فيما يصمت البطل، والتراجيديا عنده غريبة، نستمع إلى مأساته لا منه، بل من حبيبته التي تتّهمه، وهو يصمت ردحاً من الزمن. ذلك ما يعزّز تعاطفنا معه، إنه لن يحكي شيئاً، ولن يدافع عن نفسه، نكاد نتخيّله حاني الرأس أمام الفتاة، وإن كان لا بدّ من تصريح فقد يكون: «لم أبحث عن خلودي، إنما عن حياة حكايتنا». وبقدر رغبة البطلة بالخلود، سوف تُمنَع عنه، وسوف يعاقبها بالضد، بإسقاطها في النسيان، ومنح الخلود لحبيبها، الذي بقي اسمه على الحور العتيق، وعلى ألسنة أهالي الحيّ. من خلال اسمه كانت تسعى البنت إلى خلودها الخاص، وهو كما قال غوته: دعوة أبدية، إلا أنها لم تستطع تحصيله. كذلك، يبدو أنّ صمت البطل حكيم إلى حدٍّ كبير، فالبنت - من وجهة نظر تاريخية - تُشبه بيتينا فون أرتيم التي بحثت عن خلودها من خلال شاعر ألمانيا الأعظم غوته. ولكنّ الرجل حين عرف ذلك في نهايات عمره كتب ما يُسيء إليها فشوّه صورة خلوده، فيما بطلنا هنا يلتزم الصمت، لا لأنه يبحث عن صورة مثالية لخلوده، بل لأنه لا يعنيه في الأساس. تصير الصورة معكوسة الآن، فالبطلة التي كانت تثير تعاطفنا حتى وقت قريب، سوف نحسّ ببعض الحقد تجاهها، أو سنشعر إزاءها بالحنق، أما البطل الذي كنا نشتمه حين سمعنا الحكاية من طرفها، فسوف يثير تعاطفنا، والضدُّ يُظهِر حسنه الضدُّ.