تؤذيني جدّياً فكرةُ أنّ طرابلس مشهدٌ كوميديٌّ أسود، إذ إنّها حرفيّاً من أفقر المدن، في حين أنّها تضمّ أغنى الأفراد. أدري أنّها معادلةٌ قديمة وتصلح لتُباع في «بالة» الخطابات الشعبوية، ولكنّ إيرادها هنا يغفر لي تحريف بيت المتنبّي لأستبدل مصر بطرابلس وأنشد كم ذا بطرابلس من مضحكات ولكنّه ضحكٌ كالبُكا...في طرابلس أنتقل في سيارة الأجرة من منطقة إلى أخرى، ليس للترفيه وإنّما لتسوية عملٍ ما، فأتعجّب وأنا ابن المدينة من هذا الانقسام الطبقي العمودي في ظلّ أزمة يُفترض أنّها تطاول الجميع. يبقى ذلك افتراضاً، لأنّك حين ترى مظاهر الرفاهية في بعض مناطق طرابلس، لا يمكنك إلا أن تستغرب فعلاً كيف أنّ الجميع يشكون من الأزمة الجاثمة على صدر البلاد والعباد. في هذا التناقض الواقع، تتداخل سردية كوميدية وسردية تراجيدية، ليس من الناحية الأدبيّة أو السينمائية للمفهومين، بل من ناحية الممارسة الواقعية للحياة اليومية.
أسير من أوّل شارعٍ معيّنٍ حتّى آخره، فليس مهمّاً هنا الحجم والمسافة للدلالة على الكمّية، بقدر ما يهمّ مضمون الشارع وطبيعته باعتباره مكاناً مخصّصاً لفئةٍ محدّدة من فئات المجتمع، وخاصّة في هذه الأزمة التي تطاول باقي فئات المجتمع.

(رسم: ميليسا شلهوب)

يقول محمود درويش: «إذا مشيتَ على شارعٍ لا يؤدّي إلى الهاوية... قل لمن يجمعون القمامةَ شكراً». يا سيّدي درويش، أنا أمشي على شارعٍ لا يؤدّي بالنسبة إليّ وإلى أمثالي إلا إلى الهاوية، هاوية أقع فيها كما يقع «جيم كيري» في أفلامه الكوميدية. إنّ الكوميديا بحسب بن جونسون «تشغل نفسها بالأعمال التي تصدر عن حماقة الناس». المهم هنا هو فهم الحياة باعتبارها «تراجيكوميديا»، إذ إن المشي في شارعٍ يمثّل تفاوتاً طبقيّاً هو بالنسبة إلى ما أمثّله من نقيضٍ له لا يعدو كونه إقحاماً للضحك لحظة الكشف التراجيدي. فالمزج هنا بين الكوميديا والتراجيديا محمّلٌ بدلالات طبقيّة لا تخرج عن واقعية الزمان الذي يكثّف لحظة تاريخية معيّنة في موقع معيّن كان يُعدّ في السابق حيّزاً عامّاً ذا هوية جماعيّة وأصبح من ثمّ حيّزاً خاصّاً مفرغاً من الطابع الاجتماعي العام: (وسط بيروت قبل الحرب/سوليدير بعد الحرب ــــ منطقة المعرض والضمّ والفرز في طرابلس كبساتين ليمون في السابق/ منطقة المعرض والضمّ والفرز كشارع للمقاهي والمطاعم والشقق السكنية الفخمة).
في خضمّ العبث المسلّح الذي كان يحصل بين منطقة جبل محسن وباب التبّانة، أي بين منطقتين تحملان هوية طبقيّة واحدة، كانت مناطق أخرى في طرابلس (كمنطقة المعرض والضمّ والفرز مثلاً) تضجّ بالضوء والناس والسيارات الفارهة، ليس بسبب البعد الجغرافي لتلك المناطق عن الخطر الطائش للمناطق المسلّحة، بل لسبب جوهريّ قائم على عقليّة «البزنس» التي من المفترض أن تفصل ــــ في طرابلس كما في بيروت ــــ بين هانوي وهونغ كونغ: هانوي التي تمثّل الجزء التراجيدي من المدينة والتي كانت في سباق بين تصاعد الخوف والمأساة بين سكّانها، وبين تصاعد دخان القذائف في جوّها، وهونغ كونغ التي تمثّل الجزء الكوميدي من المدينة والتي بدورها دخلت في سباق مع نفسها لناحية تصاعد قهقهات روّاد مقاهيها ومطاعمها وضحكاتهم. ومن المفيد أن نستعيد هنا ما ذكره الباحث عامر محسن في أحد مقالاته: «في إحدى المقابلات في التسعينيات، يقول رفيق الحريري: ينبغي عزل الجزء الصحيح من لبنان عن الجزء المريض لكي لا تؤثر الحرب والمقاومة ضدّ إسرائيل على البزنس وإعادة الإعمار... ».
إنّ الثنائيّات التي ظهرت بعد الطائف، الجزء الصحيح/ الجزء المريض ــــ هانوي/ هونغ كونغ ــــ وسط بيروت/ سوليدير... إلخ، هي ثنائيات ذات خلفية رأسمالية عميقة، إذ إنّ أي مفهوم هو غير مفرغ من دلالاته وغاياته، ولأنّنا لا نستطيع أن نعبّر إلا بما تسمح به اللغة، فإنّنا عندما نستخدم هنا مفهوم الكوميديا والتراجيديا، نستخدمهما ضمن ثقافة معيّنة ترى أن المأساة والشقاء في الحياة يعكسان طبقة تراجيدية يمثّلها الفقراء، مقابل حياة اللهو والمرح والضحك المجّاني التي تحياها طبقة كوميدية غنيّة. تجدر الإشارة هنا الى أنّه ليس المقصود بالكوميديا ذلك النوع الذي يُضحِك الناس، بل الحياة البسيطة التي يتمتع بها الأغنياء والتي تشبه ما تختزنه الكوميديا من قدرة على تلقّي الأزمات بالهزل وتسخيفها بالمرح. والأهم هنا أنّ استخدامنا لمفهوم الكوميديا للإشارة إلى طبقة الأغنياء يحمل أبعاداً سيكولوجية، فالنكتة بحسب بنتلي، كجزء من الممارسة الكوميدية، لها قدرة مدمّرة للإنسان. كما أنّ عالم النفس ماك سينيت يعتبر أنّ أساس النكتة هو المسّ بكرامة الإنسان. وبالتالي يصبح استخدامنا للمفهومين الدراميين (الكوميديا والتراجيديا) في الإشارة إلى الانقسام الطبقي مشروعاً، وخصوصاً إذا سبرنا أغوار العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية لأي نظام اقتصادي، على اعتبار أن الرأسمالية كنكتة سينيت هي مسّ صريح بكرامة الإنسان، أي من يملك أكثر هو هو كذلك من يحدّد ما هو المضحك والمبكي.
يدور في فيلم «الجوكر» حوار مهمّ بين الجوكر والمذيع، ملخّصه أنّ النظام الرأسمالي هو الذي يحدّد الصواب والخطأ، المضحك والمبكي، وأنّه يكفي أن يبكي شخص رأسمالي نافذ على مقتل شبّان وول ستريت لكي يتأثر المجتمع كلّه، في حين أنه لو مات الجوكر سيمرّون فوق جثته كمطبّ فقط. يبقى أن أهمّ ما جاء في الحوار هو اقتناع الرجل النافذ بأنّ الجوكر وأمثاله سيتقبّلون المذلّة بدون أن يثوروا، كما أنّ غاية المذيع (الذي يذكّر بمارسيل غانم) لا تختلف عن غاية نكتة سينيت، حيث استقبل الجوكر من أجل السخرية منه فحسب.
على الجميع أن يشاهد هذا المشهد ويحفظه ويفهمه، إذ لا شكّ أنّه كلّما زاد مرح الأغنياء قابلته زيادة في بؤس الفقراء، لأنّه في النظام الرأسمالي لا تزدهر كوميديا طبقة النظام إلا على حساب ازدياد تراجيديا الطبقات المسحوقة.
نعود إلى تلك الثنائيات لنقول إنّ الثقافة الرأسمالية خلقت وظيفة خاصّة لمكان اللقاء بين الناس، أي الحيّز العام بهدف القضاء عليه وتحويل غايته الاجتماعية (العيش معاً) إلى غاية اقتصادية (الاستهلاك معاً)، وبالتالي أصبح الحيّز العام بالمفهوم الرأسمالي هو الأسواق والمطاعم والمقاهي والمحالّ التجارية و«المولات». بمعنى أكثر وضوحاً، أصبح الحيّز العام الجديد مكاناً يتضاءل فيه تماسّ الناس بعضهم ببعض، مقابل ارتفاع منسوب تبادل الخبرات الاستهلاكية في ما بينهم.
خاتمة: أيّها الناس «تجوكروا»
من المتّفق عليه في الذهنيّة العامّة لدى الناس، أنّ المهرّج هو شخصية تعمل على إضحاك الناس وتسليتهم، ولكن في فيلم «الجوكر»، يصبح المهرّج رمزاً للثورة على نظام رأسمالي لا يعترف بالطبقة المسحوقة في المجتمع، بل يهين أبناءها ويضحك عليهم. ففي خطابه، يصف المرشّح للانتخابات توماس واين الفقراء بالمهرّجين كنوع من الإهانة لهم. وهنا تأتي الدعوة إلى «التجوكر» كدعوة للثورة، فلن تستطيع أن تَسعد وأن تُسعد الآخرين إلا إذا ثرت على منظومة فكريّة ومفاهيميّة سائدة في نظام اقتصادي ينتج ممارسات وسلوكيات اجتماعية تحدّد الخير والشر ــــ الصواب والخطأ... الخ. في آخر مشاهد فيلم الجوكر، حينما يثور الفقراء بقناع المهرّجين، يقف الجوكر بطل الفيلم شامخاً وسط الجموع ويشدّ شفتيه من طرفيهما ككناية عن نشوة الثورة وكنوع من رسالة ثورية. إنّ الضحكة المرسومة على قناع المهرّجين في الفيلم هي كناية عن ضحكة معلّبة يحدّدها النظام، وإنّ الضحكة الحقيقية لا تأتي إلا عبر ثورة على نظام يسحق كلّ ما من شأنه أن يغني وأن يسمن من جوع. إنّ السعادة الحقيقيّة هي تحقيق العدالة الاجتماعية.