على وقع الضغوط الأميركية المتواصلة لمنع الانفتاح على دمشق، والمحاولات المستميتة لمنع أيّ تغيير للمشهد السوري القائم حالياً، جاءت مشاركة الرئيس السوري، بشار الأسد، في القمة العربية في جدّة، لتعلن بشكل رسمي الانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات العربية – السورية، تقوم على التعاون المؤسّساتي لحلّ القضايا. يأتي ذلك بعد فترة قطيعة تجاوزت الـ 12 عاماً، فشلت خلالها جميع محاولات تغيير السلطة في سوريا، وتسبّبت بدمار وموجات نزوح وتراجع غير مسبوق في مستويات المعيشة وتنامٍ للتطرّف، الأمر الذي جعل عودة التعاون مع الدولة السورية ومؤسّساتها بوابة إجبارية لحلحلة القضايا العالقة، بما فيها المسائل الأمنية والإنسانية، والتي فاقم الزلزال الذي ضرب البلاد في شهر شباط الماضي من أوضاعها المأسوية.وبينما تصدّرت مشاركة الرئيس السوري، بشار الأسد، في القمة، واللقاءات الرسمية والجانبية التي عقدها مع رؤساء وقادة عرب، المشهد، جاءت كلمته لتعيد التذكير بثوابت دمشق حيال جملة من القضايا، أبرزها الموقف من الجرائم الصهيونية في فلسطين، ورفض التدخّل الخارجي بمختلف أشكاله. ورأى الأسد أننا «بحاجة إلى معالجة التصدّعات التي نشأت على الساحة العربية خلال عقد مضى، واستعادة الجامعة لدورها كمرمّم للجروح لا كمعمّق لها، والأهمّ هو ترك القضايا الداخلية لشعوبها، فهي قادرة على تدبير شؤونها. وما علينا إلا أن نمنع التدخّلات الخارجية في بلدانها ونساعدها عند الطلب حصراً». كما دعا إلى إعادة النظر في النظام الداخلي للجامعة بما يتلاءم مع المتغيّرات الدولية، موضحاً أن «العمل العربي المشترك بحاجة إلى رؤى واستراتيجيات وأهداف مشتركة نحوّلها لاحقاً إلى خطط تنفيذية»، مضيفاً إنه «عندها سننتقل من ردّ الفعل إلى استباق الأحداث، وستكون الجامعة متنفّساً في حالة الحصار لا شريكاً به، ملجأً من العدوان لا منصّة له»، فيما لم ينسَ التذكير بما سمّاه خطر «الإخوان المسلمين» والفكر العثماني التوسعي. كذلك، ردّ الأسد بشكل مباشر على توصيف عودة الدور السوري في العالم العربي على أنها عودة إلى «الحضن العربي»، معتبراً أن «سوريا، ماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة، لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان، فالأحضان عابرة، أمّا الانتماء فدائم، وربّما ينتقل الإنسان من حضن إلى آخر لسبب ما، لكنه لا يغيّر انتماءه، أمّا من يغيّره فهو من دون انتماء من الأساس، ومن يقع في القلب لا يقبع في الحضن، وسوريا قلب العروبة وفي قلبها».
رحّب معظم الزعماء والقادة العرب الحاضرون بعودة دمشق إلى مقعدها


من جهتهم، رحّب معظم الزعماء والقادة العرب الحاضرون بعودة دمشق إلى مقعدها. وفي هذا الإطار، أمل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي عاد والتقى الأسد، أن يسهم استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس «الجامعة العربية»، «في دعم استقرار سوريا، وعودة الأمور إلى طبيعتها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي، بما يحقّق الخير لشعبها، وبما يدعم تطلّعنا جميعاً نحو مستقبل أفضل لمنطقتنا». وقد أدّت الرياض دوراً كبيراً في تسريع وتيرة الانفتاح العربي على دمشق، الأمر الذي حوّل القمة التي استضافتها جدة إلى «حدث تاريخي»، بعدما حاولت الجزائر التي ترأّست القمّة في دورتها الماضية المضيّ على الطريق نفسه، غير أن ثمّة معوّقات حالت دون ذلك. وتحرّكت السعودية بشكل عاجل خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، ما أفضى في النهاية إلى عودة العلاقات الديبلوماسية بين الرياض ودمشق، بالإضافة إلى رسم خريطة طريق شارك فيها الأردن والعراق ولبنان لحلحلة القضايا العالقة مع سوريا، بما فيها مسألتا اللاجئين والتهديدات الأمنية، في سياق مبادرة أردنية حاولت عمّان تسويقها منذ نحو عامين قبل أن تبصر النور أخيراً.
على هامش القمّة، بدا لافتاً الحراك السياسي السوري، سواء اللقاء الذي جمع الأسد بنظيره التونسي، قيس سعيد، والذي يأتي في وقت تعمل فيه تونس بشكل متسارع على إعادة العلاقات مع دمشق، أو الاجتماع بنائب رئيس الإمارات، منصور بن زايد، الذي أدّت بلاده هي الأخرى دوراً بارزاً في تدفئة الأجواء السورية – العربية، إضافة إلى مدّ جسر جوي لإغاثة المتضرّرين من الزلزال. كذلك، التقطت الكاميرات المصافحة الحارّة بين الرئيس السوري ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي، الذي تعاني بلاده من أزمة اقتصادية عبّر عنها بوضوح في كلمته، وهو ما قد يفسّر تباطؤ القاهرة في الانفتاح على دمشق لمنع مزيد من الضغوط الأميركية عليها، على الرغم من استمرار التواصل بين البلدَين طوال السنوات الماضية. أيضاً، ذكرت وكالة الأنباء السورية أن لقاءً جانبياً لم تلتقطه الكاميرات جرى بين الأسد وأمير قطر تميم بن حمد، وتخلّلته مصافحة بينهما، قبل أن يغادر الأمير القطري القمة بمجرّد انتهاء مشاركته في الصورة التذكارية، من دون توضيح أسباب هذه المغادرة.
وفي تقاطع يبدو مقصوداً مع مبادرة المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون (خطوة مقابل خطوة)، رأى الأمين العام لـ»الجامعة العربية»، أحمد أبو الغيط، أن «ثمّة فرصة لا ينبغي تفويتها لمعالجة الأزمة التي تُعانيها سوريا»، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه بيدرسون خلال جولاته المكوكية أخيراً. ويستهدف هذا الطرح توحيد مسارات الحلّ السورية، بما فيها المسار الروسي الذي يشتغل على فتح الأبواب بين أنقرة ودمشق بدعم من طهران، والمسار العربي الناشئ والذي وضع اجتماع عمّان الخماسي (ضمّ السعودية ولبنان والعراق والأردن وسوريا) خريطة طريق له، تتضمّن تسهيل عودة اللاجئين، والتصدّي الجماعي لمسألة المخدرات، بالإضافة إلى العمل على تأهيل البنى التحتية، والمضيّ قدماً على طريق الحلّ السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، بما يتوافق مع مبادرة «خطوة مقابل خطوة».
وبالرغم من وجود توافق واضح حول خطوات الحلّ في سوريا، إلّا أن المبادرة العربية لا تزال تصطدم بالرفض الأميركي المستمرّ، ومحاولة إعاقة أيّ عمل في مشاريع إعادة الإعمار، وهو ما من شأنه إبطاء خطواتها وتصعيب التماس نتائجها بالشكل العاجل المأمول. وعليه، تبقى مسألة التصدّي للمخاوف الأمنية الأكثر قابلية للتطبيق العاجل، الأمر الذي يجري فعلياً عبر عمل مشترك على حدود سوريا الجنوبية.