خلْف الأرقام المعلَنة عن فداحة الخسائر البشرية والاقتصادية التي تسبّب بها الزلزال المدمّر، ثمّة قصص مأسوية لأطفال لم يفقدوا فقط دفء المنزل وذكرياته، وإنّما خسروا أيضاً حنان الأب والأم وعناق الأشقاء، الذين لم يبق من أثرهم سوى ركام المنزل وما تحتفظ به ذاكرة الأطفال، فيما بعض الأيتام لم يحتفظوا حتى بصورة يتلمّسون فيها وجوه مَن فقدوا. حالة التعاطف الواسعة مع القصص المحزنة لهؤلاء، دفعت ببعض المشاهير والأشخاص العاديين إلى إبداء رغبتهم في تبنّي هذه الطفلة أو ذاك الطفل، وقد سُجّلت دعوات محلّية طالبت بدراسة موضوع التبنّي كحلّ لمشكلة اجتماعية أوجدها الزلزال. لكن مع احتضان الأقارب من مختلف الدرجات للأيتام، والرفض المجتمعي المستنِد أوّلاً إلى مبدأ ديني واجتماعي، تراجَع زخم الحديث عن التبنّي، إلّا أنه بقي حاضراً، وإنْ بنسبة أقلّ من السابق.
القانون والشرع
في مقاربة ملفّ التبنّي، ثمّة جانبان مهمّان ومؤثّران: الأوّل قانوني، يتعلّق بموقف المشرّع السوري وما تتضمّنه حالياً التشريعات والقوانين السورية بالخصوص؛ والثاني اجتماعي، عنوانه الانعكاسات الاجتماعية للتبنّي على حياة الأطفال والبدائل الأخرى المتاحة، والتي قد تكون أكثر جدوى بالنسبة إلى مستقبلهم. قانونياً، يتعدّى النقاش مسألة الرفض أو السماح، إلى الحلول المُنفَّذة فعلياً. بحسب القاضي المستشار محمد ياسين القزاز، فإن «التبنّي يخالف النظام العام للجمهورية العربية السورية، حيث لا يقرّ القانون السوري نظام التبنّي ويَعتبره باطلاً مطلقاً، فالإنسان يُنسب إلى والدَيه الحقيقيّين، فإن جُهلا فلا يُنسب إلى غيرهما ولا يُسمح بأن يعلن شخص ما رغبته في أن يكون هذا ابنه من دون رباط حقيقي أو أن تُنزع صفة الأبوَين الحقيقيَّين عنه». ويضيف القزاز، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «القانون السوري يوافق الشرع في منْع التبنّي وتغيير الأنساب، حيث إن الأطفال مجهولي النسب يسجَّلون في دائرة النفوس في خانة مستقلّة، إلى حين إقرار أهلهم بنَسبهم، وإحضار الثبوتيات اللازمة، أو يبقى الطفل لقيطاً/ مجهول النسب من الناحية القانونية ويأخذ اسماً ولقباً منفصلَين، فيما يسمح القانون ذاته فقط للكاثوليك والسريان الأرثوذكس بالتبنّي وفق شروط محدَّدة».
منذ سنوات ما قبل الحرب، كانت هناك مؤسّسات حكومية وأهلية تُعنى بتربية الأطفال الأيتام وتنشئتهم


ويُعدّ تبنّي الأطفال غير مجهولي النَّسب طرحاً جديداً على الساحة السورية؛ إذ اقتصر الحديث سابقاً على الأطفال مجهولي النَّسب، والذين زاد عددهم بوضوح خلال فترة الحرب لأسباب كثيرة متعلّقة بالزواج من غير سوريين في المناطق التي كانت خارج سيطرة الحكومة، وجرائم الاغتصاب... وما إلى ذلك. وقُبيل الزلزال بأيام قليلة، صدر قانون خاص برعاية وتنظيم شؤون الأطفال مجهولي النَّسَب، نصّ على استحداث هيئة عامّة تُنظّم شؤونهم. والقانون المُشار إليه، أوجدَ، كما يَذكر القزاز، «مفهوماً لم يكن معروفاً في القانون السوري سابقاً، وهو مفهوم (الإلحاق)، ويعني توفير الرعاية البديلة للطفل مجهول النسب ضمن أسرة بديلة أو في مؤسّسة رعاية. كما حدّد مفهوم الأسرة البديلة بالزوجَين، أو المرأة التي لا زوج لها، مِمَّن يُعهد إليهم برعاية الطفل مجهول النسب، في مفهوم يقترب بعض الشيء من مفهوم التبنّي في أمور الرعاية الاجتماعية المالية ويختلف عنه في النَّسب والتوارث، وبشكل عام في كلّ ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية من أحكام التبنّي، حيث تضْمن الرعاية البديلة للطفل مجهول النَّسَب تربيته وتعليمه».

الأقارب أوْلى بالرعاية والدعم
منذ سنوات ما قبل الحرب، كانت هناك مؤسّسات حكومية وأهلية تُعنى بتربية الأطفال الأيتام وتنشئتهم، كدُور الأيتام التابعة لوزارة الأوقاف، والمراكز التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وقُرى «SOS» الأهلية، وغيرها من الجمعيات الأهلية والدينية، والتي تبْقى في نظر كثيرين الأفضل لرعاية الأطفال الذين فقدوا أسرهم خلال كارثة الزلزال، بالنظر إلى كوْنها تخضع لرقابة حكومية وأهلية، ولالتزامها بنظام معيّن يَحفظ حقوق الطفل ونَسبه. ووفقاً لبيانات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فقد زاد عدد دُور رعاية المسنّين والأيتام، خلال الفترة الممتدّة ما بين 2016 و2019، من حوالي 20 داراً إلى 45 داراً، وارتفع عدد مَن يتلقّون خدمات الرعاية إلى أكثر من 54 ألف يتيم (كفالة داخلية - كفالة خارجية)، ووصل عدد المستفيدين من برنامج الأُسر التي ترعى أيتاماً بنهاية عام 2019 إلى حوالي 1254 مستفيداً، بمبلغ قُدّر آنذاك بحوالي 171 مليون ليرة، أي ما يعادل وقتها، وفق سعر الصرف الرسمي، حوالي 380 ألف دولار.
من هنا، لا تفضّل رئيسة «هيئة شؤون الأسرة والسكّان» سابقاً، الأستاذة الجامعية إنصاف حمد، «طرْح التبنّي لأسباب عديدة، ولا أرى حاجة إليه بوجود مؤسّسات عديدة ترعى الأيتام، حتى إنّني لا أفضّل وجود الأطفال في هذه المؤسّسات أصلاً، فهؤلاء الذين تيّتموا لهم أسر ممتدّة، والأفضل لهم أن يعيشوا بين أقربائهم من جهة الأم كالأخوال والخالات، أو من جهة الأب كالأعمام والعمّات، أو عند الجدَّين من الجهتَين، لأن هذا يساعدهم بسرعة أكبر على التكيّف مع الواقع الجديد ويخفّف عنهم الشعور بالصدمة والفقدان، نظراً إلى ارتباط صورة الأقرباء بصورة الأبوَين». وتَلفت حمد، في حديثها إلى «الأخبار»، إلى أن هذا المقترح «يصطدم بصعوبة الأعباء المادّية التي قد تترتّب على وجود هؤلاء الأطفال في كنف الأقرباء، الذين يعانون على الأرجح من الإجهاد جرّاء الظروف المعيشية الصعبة والضاغطة على مجمل السوريين، الأمر الذي قد يدفع البعض إلى التهرّب من استضافة الأيتام، وهنا يأتي دور المؤسّسات والجمعيات الأهلية والمتبرّعين في تقديم كفالة نقدية شهرية تساعد الأسر المستضيفة على تحمُّل أعباء الاستضافة المادّية، وتجعلهم أقدرَ على القيام بواجباتهم المعنوية».
إلّا أنه إلى جانب الدعم المادّي المطلوب من الحكومة والمجتمع الأهلي؛ ثمّة احتياجات اجتماعية تشير إليها حمد، من قَبيل تقديم «الدعم النفسي للأطفال لمساعدتهم على تجاوُز محنة الفقد ومعالجة المرض النفسي الناجم عن معايشة رعب الزلزال ولحظاته الصعبة، وخاصة إذا كانوا قد انتُشلوا من تحت الأنقاض، وكذلك تقديم الدعم النفسي والمعنوي للأسر المستضيفة لتعريفها بالاستجابات المطلوبة، وأيضاً للعاملين في المؤسّسات التعليمية، وخاصة أنّ من المتوقّع تراجُع مستوى التحصيل الدراسي لهؤلاء الأطفال بسبب ما عانوه. وهنا، يمكن إيلاء أهمّية خاصة لمتابعة وضعهم الدراسي، وتشجيع المجتمع المحلّي على عقْد أنشطة ترفيهية ومعسكرات صيفية لهم».