لم يستطع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تجاهُل مواقف الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصر الله، بخصوص الوضع الداخلي المأزوم في كيان العدو، بل تعمَّد التعقيب عليها خلال افتتاح جلسة الحكومة التي تشكّل منصّة أسبوعية له لتسجيل مواقفه من المستجدّات التي تهمّ إسرائيل، ولتوجيه رسائل إلى الداخل والخارج. ورأى نتنياهو أن مواقف نصر الله تندرج في إطار «محاولة الإضرار بمعنويّاتنا القوميّة»، و«تقويض تماسكنا كشعب»، في إقرار منه بحجم تأثير رسائل الأمين العام للحزب، على الواقع الإسرائيلي. ومع ذلك، بدا لافتاً تعمُّده تَجاهُل المعادلة الأخطر على إسرائيل، والتي أعلنها نصر الله، ومفادها الردّ على دفْع لبنان نحو الفوضى والانهيار التام، عبر استهداف إسرائيل وإيلامها، في موقف يُجسِّد استراتيجية رمي كرة النار الأميركية من الساحة اللبنانية إلى كيان العدو. وكشف ردّ نتنياهو أيضاً، أن مواقف نصر الله تحوَّلت إلى أداة تَراشُق بين رئيس الحكومة الإسرائيلية وخصومه في الداخل؛ إذ يستغل معارضوه ذلك للتصويب على سياساته ومخطّطاته التي أدّت إلى تفاقُم الوضع الداخلي واستفزّت نحو نصف الجمهور الإسرائيلي، قياساً إلى نتائج الانتخابات الأخيرة.في المقابل، حاول نتنياهو، من خلال الردّ على نصر الله، أن يحتوي مفاعيل مواقف الأخير في الداخل الإسرائيلي، عبر توجيه رسائل مضادّة تؤكد أن الكيان لن يتدحرج نحو سيناريوات خطيرة بفعل مشكلاته الداخلية. وبذلك، تحوّلت مواقف الأمين العام لـ«حزب الله» أيضاً إلى مادّة توظيف يحاول كلا المعسكرَين المتقابلَين في كيان العدو، استخدامها ضدّ الآخر. وهي نتيجة تكشف في ذاتها عن عمق الانقسام الذي قد يتدحرج نحو مأزق سيكون من الصعب الحدّ من تداعياته على الكيان. وينبع ردّ نتنياهو على موقف نصر الله، كذلك، من مفهوم أساسي جدّاً لدى القيادات الإسرائيلية التي تولي أهميّة استثنائية جدّاً لصورتها ولمدى تماسك مجتمعها في وعي أعدائها، وعلى رأسهم «حزب الله» والمقاومة في فلسطين، كون هذا الأمر له أبعاد استراتيجية تشكّل منطلقاً لتقديرات وخيارات تمسّ الأمن القومي الإسرائيلي. من هنا، أتى توجُّه نتنياهو إلى الأمين العام للحزب، بالقول: «أقول لنصر الله: لا تبنِ على حرب بين الإخوة. ذلك لن يحدث...»، إذ تدرك إسرائيل بكلّ تيّاراتها ومؤسّساتها وقياداتها خطورة أن تبدو هشّة من الداخل وغارقة في صراع داخلي. وخير مثال على ما تَقدّم، أنه بعد أكثر من عقدَين، لا تزال عقدة «بيت العنكبوت» حاضرة بقوّة في الوسط الإسرائيلي، فيما ترى المؤسسات المهنية في دولة الاحتلال أن صورة إسرائيل المنقسمة على ذاتها من الداخل تُساهم في تقويض صورة ردعها. أمّا في ما يتّصل بالظروف الآنية، فتقتضي مصلحة نتنياهو وحكومته تأكيد عدم التدهور إلى سيناريوات خطيرة نتيجة سياساته الداخلية، بهدف تبرير التصميم على المضيّ في هذه السياسات التي فاقمت الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، والإيحاء بأنه يمكن احتواء تداعياتها وضبطها.
لكن بالعودة إلى نص خطاب نصر الله، يلاحَظ أنه تحدّث عن صدامَين كبيرَين، تدفع في اتجاههما «الحكومة الحمقاء الحالية» (حكومة نتنياهو): «الصدام الأول داخلي إسرائيلي، والثاني فلسطيني قد يمتدّ إلى المنطقة». ومن المعلوم أن للصدامات أشكالاً ومستويات متعدّدة، فيما تكاد الجهات المختصّة في كيان العدو تجمع على التحذير من تدهور الصراع الداخلي إلى مستويات أشدّ خطورة، من ضمنها الحرب الأهلية التي نقل نصر الله ما تقوله بشأنها نخبة الكيان: «كانوا قبل عدة أشهر يتحدّثون عن احتمال حرب أهلية، الآن يقولون ‏قريباً. يتحدّثون عن سفك الدماء».
تجاهل نتنياهو أن الجميع في إسرائيل «يتحدّثون عن ‏عقدة الثمانين عاماً...»

لذلك، كان على نتنياهو أن يردّ على المسؤولين والخبراء الإسرائيليين، وليس على نصر الله. وعلى هذه الخلفية، يأتي تحرّك «الشاباك»، كما كشفت تقارير إسرائيلية، لاتّخاذ إجراءات احترازية بهدف الحؤول دون حصول عمليات اغتيال سياسي. وكان وزير الأمن الإسرائيلي السابق، بني غانتس، (هآرتس 10/1/2023)، قد قال عن الحرب الأهلية أمام كتلته، متوجّهاً إلى نتنياهو بالتحذير من أنه «إذا واصلت مسيرتك، فستقع عليك مسؤولية حرب الإخوة في المجتمع الإسرائيلي». لكن صحيفة «هآرتس» لم ترضَ بتوصيف غانتس الذي رأت أنه لطيف في توصيف الواقع، وشدّدت على ضرورة توخّي الدقّة في هذا المجال عبر القول إن «الحرب الأهلية هنا بالفعل».
مع ذلك، كان لافتاً أن مكابرة نتنياهو وربّما أيضاً أعصابه المشدودة هي التي دفعته إلى الردّ على نصر الله. والمؤشّر إلى ما تَقدّم، أنه عاد وأقرّ بما حاول إنكاره ضمناً في الجلسة نفسها، فوجّه دعوة إلى معارضيه في الداخل، بالقول: «نحتاج إلى التوقّف عن الحديث عن الدماء في الشوارع، نحتاج إلى خفض ارتفاع ألسنة اللهب، نحتاج إلى تهدئة الأجواء!». والأهم أنه أقرّ بأن خلفية ردّه على نصر الله، تنبع من إدراكه خطورة الرسائل التي تنطوي عليها مواقف الأخير، إذ توجّه إلى القادة الإسرائيليين بأن ما تحتاج إليه «الدولة» في هذه المرحلة هو الكفّ عن الحديث عن الدماء: «هذه هي الرسالة الواضحة التي يجب أن نرسلها إلى أعدائنا». وبرز أيضاً في كلام نتنياهو، تجاهُله جزءاً مهمّاً من كلام نصر الله، جاء فيه أن الجميع في إسرائيل «يتحدّثون عن ‏عقدة الثمانين عاماً...»، وهو ما يعود إلى أن زعيم «الليكود» كان من أوائل من بدأوا الحديث عن تلك العقدة، وانضمّ إليه لاحقاً في تناولها نفتالي بينت وبيني غانتس وغيرهما، محذّرين من وجود مخاطر تهدّد مستقبل إسرائيل ووجودها. وبالتالي لم يكن بإمكان نتنياهو إنكار هذا الجدل، الذي أصبح سائداً لدى كل الأوساط في كيان العدو. ومن الضروري، هنا، التذكير بما قاله رئيس الحكومة الحالي قبل أكثر من خمس سنوات من الأحداث الحالية («هآرتس» 10/10/2017)؛ ففي مناسبة تتعلّق بالتوراة في منزله، وبحضور زوجته وآخرين، «ذكر رئيس الوزراء أن مملكة الحشمونئيم بقيت لمدّة 80 عاماً فقط»، وأنه «يعمل على ضمان أن تتجاوز دولة إسرائيل هذا التاريخ ووصولها إلى عام 100»، وأن «مسألة بقاء إسرائيل تشغل باله».
وبغضّ النظر عمّا ستؤول إليه الأوضاع الداخلية في الكيان، فإن مخاطر ما يجري على الأمن القومي ومستقبل إسرائيل لا تقتصر على احتمال الحرب الأهلية، وإنّما هناك قدر متيقّن يتّفق عليه الخبراء والجنرالات والمسؤولون ومعاهد الأبحاث، مفادها أن تفاقُم الانقسام الداخلي يساهم في تآكل المناعة القومية التي تجعل الدولة العبرية أكثر ضعفاً في مواجهة المخاطر الخارجية، وهذا له بحث آخر.