لم تحتجِ السلطات التركية إلى أكثر من يوم واحد لاستغلال مأساة الزلزال المدمِّر، فيما انتظرت المعارضة يومَين فقط لتفتح النار على رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، ولينفتح، على هذه الخلفية، السجال على مصراعيه. ومثّلت تصريحات الناطق باسم «حزب العدالة والتنمية»، عمر تشيليك، مباشرة في أعقاب الزلزال، والتي نَسب فيها إلى حزبه، وشريكه في «تحالف الجمهور»، «حزب الحركة القومية»، فضْل المساهمة في الإنقاذ، متجاهلاً كل القوى السياسية الأخرى، شرارة استنفار المعارضة، وعلى رأسها زعيمها، زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو، فيما أشار كتّاب كثر إلى تقاعُس السلطات وتقصيرها في استباق الكارثة، كما في التصدّي لها بعد وقوعها. وبعد جولة قام بها في المناطق التي ضربها الزلزال، ولا سيما في إقليم هاتاي برفقة جميع رؤساء البلديات الكبرى (أنقرة، إسطنبول، مرسين، إزمير وهاتاي)، قال كيليتشدار أوغلو إن «ما رأيناه على الشاشات ليس بشيء أمام هول الكارثة على الأرض. ونحن أمام مشهد ثقيل جدّاً. ما جرى كان نتيجة لسياسات الريع المنظّمة التي اتّبعتها السلطة»، مضيفاً إنه «لن يلتقي أبداً مع هذه السلطة، ولا مع عصابات الريع. وإذا كان من مسؤول عن ذلك، فهو رجب طيب إردوغان». ورأى أن السلطة لم تنشغل باحتياجات المناطق، بل انشغلت، بدلاً من ذلك، بتغيير المجالس المحلّية، ووضْع السلطات المنتخَبة تحت الضغط، «حتى الجيش، جيشنا، لم يدرَج بطريقة يمكن الاستفادة منه بشكل كاف. وبقي متأخّراً عن التحرّك. والله، لا يعرفون كيف تُدار الدولة. وبكلّ وضوح أقول: إن المسؤول عن ذلك هو رجب طيب إردوغان. عشرون عاماً مضت، وسلطة إردوغان لا تَعرف كيف تتهيّأ للزلازل. لذلك، لا أفكّر أبداً في اللقاء معه». وبحسبه، فإن «الضرائب المخصّصة للزلازل أُعطيت للعصابات التابعة لهم. والضرائب التي دفعها الشعب لم يَرها عندما صار بحاجة إليها. كان همّ إردوغان الانتخابات والسلطة. لا بدّ أن من محاسبة الذين بدّدوا أموال الدولة».
وعطفاً على ما تقدَّم، يقول الكاتب مراد يتكين إن السكّان لا يلومون فِرق الإغاثة التي تقوم بما عليها، بل عدم كفاءة الحكومة في إدارة الأزمة، وأنهم يرون في إعلان حالة الطوارئ مؤشّراً إلى أن الأمور لا تسير على ما يرام، على رغم أن وزير المالية، نور الدين نباتي، وصف الوضع بأنه «تحت السيطرة». ويشير يتكين أيضاً إلى الفضائح التي تخرج من إقليم هاتاي، حيث تضرَّر المطار الذي، عند إنشائه في عام 2007، اعترض البعض بالقول إن الأرض مائيّة ولا يجب البناء عليها. كما تدمَّر مستشفى الإسكندرون، ومبنى إدارة الكوارث نفسه. ووفق الكاتب، فإن معظم المؤسّسات في الإقليم بقيت محرومة من الخدمات قبل الكارثة، كون البلدية بيد «حزب الشعب الجمهوري» المعارض. وعندما وقعت الواقعة، كانت الإمكانات قليلة بسبب عقوبات السلطة على البلدية. ويورد يتكين أن سلطة «العدالة والتنمية» أعطت تراخيص بناء، منذ عام 2002، في المناطق التي حصل فيها زلزال 1999، معتبراً أن «سوء الإدارة والفوضى الذي واكب مواجهة الزلزال»، «سيُحدث، منذ الآن، هزّات ارتدادية كبيرة في السياسة».
انتقد العديد من الخبراء العسكريين تراجع الدور الذي تقوم به القوات المسلّحة من «شريكة في الحلّ» إلى «مساعدة» فيه


وفي مقالته بعنوان «إنه يوم الحساب»، يكتب محمد كون: «(إننا) نواجه واحدة من أعظم الكوارث في تاريخنا. وبعد زلزال 1999، فرضنا الضرائب لجعل الأبنية أكثر مقاومة للزلازل وتعزيز السابقة، وهدم المعرّضة منها للخطر. لكنّنا لم نفعل شيئاً. لا نعرف أين ذهب المال وأُنشئت مبانٍ غير سليمة وعلى خطّ صدْع الزلازل ومن دون رقابة وطرق ضعيفة. فما الذي سيقوله الآن أهالي الضحايا؟ حتى دافعو الضرائب ذهبوا ضحية الزلزال. ويتساءل الجميع أين الدولة وأين الحكّام». ويرى كون أن «الوقت الآن هو لِلَملمة الوضع وإنقاذ الضحايا، وفي الوقت نفسه يجب ألّا ننسى ذلك ونبدأ المحاسبة».
من جهتهم، ينتقد العديد من الخبراء العسكريين تراجُع الدور الذي تقوم به القوات المسلّحة من «شريكة في الحلّ» إلى «مساعدة» فيه، وذلك بموجب «قانون تأسيس هيئة إدارة الكوارث» في عام 2009. ويلاحظ هؤلاء أن طريقة عمل الهيئة ناقصة ولا تلبّي احتياجات الكوارث. وفي هذا الإطار، يقول الجنرال المتقاعد، طارق أوزكوت، إن الجيش يحارب في الحرب العدو، وفي السِّلم الكوارث، وإنه «على الرغم من كلّ شيء، فإن نظام التراتبية موجود فقط لدى الجيش. وفي هذه الحالة، فإن المدنيين لا يمكن أن يقوموا بإدارة الوضع»، مضيفاً إن إدارة الكوارث «يجب أن تُسلَّم للجيش ويتحدَّد قائدها ويمرّ كلّ شيء عبره. ولو كان هذا حصل، اليوم، مثلاً، لكانت أنشئت مستشفيات ميدانية بدلاً من تلك التي تهدّمت، وأُرسل الأطبّاء العسكريون إلى المناطق المتضرّرة، ولَهرع العسكر من دون تضييع وقت لمساعدة المواطنين».
وفي الاتّجاه نفسه، يبيّن الجنرال المتقاعد، أحمد ياووز، أن «الجيش له القدرة على العمل في عمليات الإنقاذ والمستشفيات والمطابخ وغير ذلك، وأعتقد أنه تمّ إضعاف جهوزية القوات المسلّحة في هذا المجال. وعلى رغم ذلك، فإن الجيش يبقى المؤسّسة الأكثر تنظيماً في حالات الكوارث». ويرى أنه «يمكن العمل جزئيّاً من دون الجيش في مناطق صغيرة، ولكن في الوضع الناشئ عن الزلزال الأخير، كان يجب تكليفه بتولّي مسؤولية مواجهته». أمّا الجنرال المتقاعد، نجاتي إيسلين، فيلفت، بدوره، إلى أن تركيا عاشت كارثة غير مسبوقة، فيما بقيت «هيئة إدارة الكوارث عاجزة عن تلبية الحاجات والمساعدة اللازمة. تجربة الجيش بعد زلزال 1999 كبيرة جدّاً، وهو الجيش الثاني في حلف شمال الأطلسي. وكان يجب تكليفه بالتدخُّل في مناطق الزلزال وبأكبر عدد ممكن من الجنود. وهنا يجب تلافي مشكلة نظام استبدال الخدمة العسكرية بالمال».
ووفق العقيد المتقاعد، إكرامي أوزطوران، فإن الوحدات العسكرية للجيش أُبعدت بعد انقلاب 15 تموز 2016، إلى خارج المدن. كما أن الثكنات التي يمكن أن تضْمن تدخُّلاً عاجلاً، أُغلقت بعد الانقلاب، ما جعل المساعدة العاجلة - فيما لو طُلبت من الجيش - غير ممكنة. وقد دُمّرت إمكانية قيام الجيش بمهامّ مستعجلة صحيّة وإنقاذيّة نتيجة إغلاق هذه الثكنات». ويَنقل أوزطوران عن المواطنين بعد حصول الزلزال، تساؤلهم بصوت واحد: «أين الجيش؟ ولماذا لا يتدخّل؟ وقد فهم هؤلاء المواطنون أن قانون إدارة الكوارث أَظْهر عجز هذه المؤسّسة عن القيام بعملها الآن». ويسأل: «كيف بإمكان القوّة الأكثر استعداداً وتجهيزاً أن توضع خارج المدن وأن يُحرَم المواطن من خدمات «قوّة طازجة» مثل الجيش، في مثل هذه الظروف».
وفي صحيفة «جمهورييات»، يكتب باريش دوستر أن «الجميع يعرف أن تركيا دولة زلازل، وأن إمكانية منْعها غير ممكنة. ولكن، هل من غير الممكن التحسُّب للزلازل والتعامل معها على أساس العلم والتكنولوجيا الحديثة؟ ولماذا لا نتحسّب للوضع على الأقلّ في المناطق التي تقع على فيالق؟». ويقول: «الزلزال يقتل، ولكن الرأسمالية والربح السريع وعدم التخطيط، ألا تقتل؟ إنّنا نعرف كيف يسرق المتعهّدون من مواد البناء، وكيف تتمّ مخالفة شروط السلامة من قِبَل المهندسين، وكيف تصدر قوانين العفو عن المخالفين، ورأينا كيف انهارت المباني الحكومية ومساكن الطلاب ودمّرت المستشفيات وانشقّت مدارج الطائرات إلى قسمَين، ولكن أين هو القضاء الذي يحاسب؟ وأين غُرف المهن المعنية والإعلام، ولماذا لا يرفع المثقّفون الصوت؟ ألم يكن كلّ ذلك لأخذ الدرس؟».
وعن تأثير إعلان حالة الطوارئ على الانتخابات الرئاسية المقبلة، يعلّق رئيس المحكمة الدستورية السابق، يكتا غونغور أوزدين، قائلاً إنه «لا شيء يؤثّر على الانتخابات سوى اندلاع حرب». ويرى الكاتب طلعت أتيللا أن هناك «أزمة كبيرة في ما يتعلّق بالانتخابات المقبلة. فقد كان مقرّراً أن تعلن المعارضة، بعد حوالي عشرة أيام، مرشّحها للانتخابات، وهو كمال كيليتشدار أوغلو. لكن، هل سيحدث هذا فعلا الآن بعد الزلزال؟ إذا أُعلن فمشكلة، وإذا لم يُعلن فستخرج التأويلات». ويبدو واضحاً بالنسبة إلى الكاتب أن «الأوراق سيعاد خلطها بعد الزلزال، وسيعاد النظر بيوم الانتخابات وبالانتخابات نفسها. وستوضع كلّ استطلاعات الرأي ليس في صندوق القمامة، ولكن إلى جانبها، وسيتمّ تصفير كلّ العملية. في الأفق أزمة كبيرة».