ماذا أكتب؟ وعمَّ أكتب؟ هل أكتب عن تلك الدقيقة التي مرّت ثوانيها دهراً؟ عن خوف لم نختبره من قبل، ونحن أبناء بلد يعيش حرباً مستعرة منذ أكثر من 12 عاماً، خبرنا خلالها الموت بجميع أشكاله.كان فجر يوم شتوي عاصف، في اللاذقية، كما هي عادة المدن الساحلية، كان المطر غزيراً، من خلف النافذة كنا نراقب السماء ترتعد، وضجيج الصواعق يتردّد بين وقت وآخر، فجأة، بدأت الجدران تتحرك، ظننّا للوهلة الأولى أنّ انفجاراً ما وقع، أو أنه عدوان إسرائيلي جديد على المرفأ القريب منا، والذي تعرّض لعدوانين سابقين، تسبب أحدهما بتحطم بعض أثاث المنزل، والآخر بتشققات صغيرة في بعض الجدران غير الإنشائية.
مرّ الوقت، ازدادت الاهتزازات، الشقوق الصغيرة في الجدران بدأت تتوسع، الكتب تتطاير من فوق المكتبة المعلّقة، الأرض تحتنا تتمايل، كان كل ذلك يحدث بتسارع يفوق قدرة عقلنا على تفسيره، وعلى اتخاذ قرار ما ينقذنا من المجهول الذي نعيشه.
وقفنا وسط المنزل، حاولت تهدئة زوجتي، اتّصلنا على عجالة للاطئمنان على ابنتي التي كانت تبيت في منزل جدتها القريب. على الهاتف الآخر، جاء صوت شقيقتي من حلب «أنا خايفة، نحنا خايفين كتير»، ما زال صوتها يرنّ في أذني.
هل نخرج من المنزل؟ إلى أين نذهب؟ هل علينا إحضار ابنتنا إلى منزلنا أم علينا الذهاب إليها؟ كل تلك الأسئلة كانت تدور في الوقت الذي نحاول فيه استيعاب ما يجري.
هدأت الأرض، بدأنا نستوعب ما يجري، وبدأت عقولنا تستجمع قواها «لقد انتهى الزلزال» قلنا مراراً ونحن نتبادل الطبطبة والتهدئة. تذكّرنا بعد انتهاء الزلزال بعض التعليمات التي قرأناها يوماً حول ما يجب القيام به، جمعنا أوراقنا وأدويتنا الضرورية في حقيبة، وبعض الثياب في حقيبة ثانية، وضعناها قرب الباب، وبدأنا نتفحص أعمدة المبنى والتشققات في الجدران لاتخاذ القرار المناسب.
لم نكد نهدأ، زلزال آخر، الأرض تتلاعب بنا، والجدران تحوم فوقنا مثل مفترس وجد فريسته، مرة أخرى، تعجز عقولنا عن التفكير، نعجز عن اتخاذ أي قرار باستثناء الوقوف تحت أحد الجسور في المنزل. كانت العاصفة في الخارج تشتد، كنا محاصرين بين أرض تلفظنا وسماء توشك على الإطباق علينا.
أخشى، مثل مئات الآلاف، العودة إلى المنزل. أخشى، مثل جميع السوريين المكلومين النوم، تلك الساعات القليلة التي كنا نستطيع خلالها أن نحلم أصبحت اليوم عدوّاً نهرب من مواجهته


قررنا بعد معاينة الأضرار والاطئمنان على سلامة البناء البقاء في المنزل، ولكنّ زلزالاً ثالثاً ضربنا ظهر اليوم التالي دفعنا إلى الخروج بحثاً عن مكان آمن. لم تعد بيوتنا آمنة، لم يعد ذلك السقف الذي نحتمي به يحمينا، أصبح والجدران أدوات تعذيب، فلا هو يحكم علينا، ولا هو يتركنا نرتاح.
ماذا أكتب؟ هل أكتب عن هؤلاء الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم، خلال نومهم، فجأة محاصرين تحت أكوام من الركام، لا يعرف أحدهم مصير ابنه أو حبيبته في الغرفة المجاورة، أم أشخاص عاشوا تجربة الموت مرتين خلال زلزالين قبل أن يجهز عليهم زلزال ثالث؟ أم ذلك المبنى الذي صمد في وجه الزلازل، قبل أن يختار هزة ارتدادية، من بين عشرات الهزات، موعداً للموت.
هل أكتب عن العالقين تحت الركام، ينتظرون يداً تمتدّ إليهم؟ أم عن مئات الآلاف الذين هربوا إلى المجهول، إلى لا مكان، جلسوا تحت المطر في الحدائق والساحات ينتظرون أن تدرك عقولهم ما حدث.
هل أكتب عن تلك العائلات التي فرّت من الحرب إلى تركيا، فأطبقت جدران المنازل عليهم في مكان بعيد عن ساحات المعارك، أم عن أحياء بأكملها تحولت خلال لحظات إلى ركام، أم عن حلب، تلك المدينة التي شيّعت قبل أيام قليلة ضحايا انهيار بناء، من بين مئات المباني المهددة بالانهيار، قبل أن تستيقظ على فاجعة دمرت عشرات المباني دفعة واحدة.
هل أكتب عن هؤلاء الذين عاشوا الموت بحثاً عن فرصة للحياة في أوروبا، فوجدوا أنفسهم محاصرين بمصير أحبّتهم المجهول في سوريا. هل أكتب عن أطفال يتّمتهم الحرب، فسلب منهم الزلزال من بقي لرعايتهم، أم عن أمّ تندب حظّها وتتساءل «لماذا لم أمت معهم؟»، أم عن أب لا يقوى حتى على البكاء، يقف عاجزاً بانتظار معرفة مصير عائلته التي تركها قبل ساعات قليلة في منزل بذل لأجل تدفئته عرقاً ودماً؟ أم هؤلاء الذين فرّوا من الموت، وانتظروا مساعدات تخرجهم من الخيم القماشية إلى منزل يحميهم من برد الشتاء وثلوجه، فدفنوا فيه؟
هل أكتب عن ذلك الشعور بالوحدة الذي تملّكنا، نحن السوريين، عندما رأينا العالم يتجاهلنا، يعاقبنا، قبل أن نرى بعض الأيادي تمتدّ إلينا مشكورة، أم عن النعوات التي تفوق قدرة المطابع على إنتاجها، أم عن هؤلاء الأوغاد الذين يستغلّون مصابنا بحثاً عن «كليك» أو إعجاب، فيبثّون الشائعات بين وقت وآخر، ليضعوا فوق جراحنا ملحاً ويضغطون بكل ما استطاعوا من قوة؟
اليوم، وبعد مرور أربعة أيام تقريباً على الفاجعة، ما زلت أشعر بالأرض تموج تحتي، ما زلت أرى الجدران تتمايل. أخشى، مثل مئات الآلاف، العودة إلى المنزل. أخشى، مثل جميع السوريين المكلومين النوم، تلك الساعات القليلة التي كنا نستطيع خلالها أن نحلم أصبحت اليوم عدوّاً نهرب من مواجهته، فنمضي الوقت محاولين أن نمدّ ما استطعنا من يد المساعدة، نتبادل نوبات الحراسة، فيسهر أحدنا ليحاول البقية النوم، محاولين الالتفاف على عجزنا الذين اختبرناه، وما زلنا، محاولين تجاهل خوف لا يمكن لكلمات أن تصفه.

* صحافي