اليوم هو الإثنين، الوقت في الصباح الباكر والتاريخ السادس من شباط 2023، في القسم الجنوبي الشرقي من مدينة حمص السورية، وأنا مضطجع في الغرفة الجنوبية الشرقية التي تشرف على حديقة المنزل. فلقد اعتدت أن أتفاءل بالجهتين الجنوبية والشرقية، ذلك أن الحجر الأسود المقدس في الكعبة يأخذ مكانه بين الركن اليماني الجنوبي والركن الشرقي العراقي، حيث بوابة الصفا، يظهر من خلالها في أواخر الصيف نجمة لامعة لمعاناً يفوق الوصف هي "الشعرى اليماني". وظهورها علامة على بدء فيضان النيل. وكانت زوجتي وهي مساكني الوحيد تنام في الغرفة الشمالية. كنت أضطجع في الفراش لأنه الوسيلة الوحيدة للتدفئة بالنسبة إلينا (تدفئة سوريّة سرّية). ما يزال يُسمع صوت المطر في الخارج لجهة الحديقة منذ ثلاثة أيام متواصلة مع صوت سحّ كأنّ بَرَداً يخالط المطر. وكنت قد عقدتُ العزم استجابة لرغبة صديق عزيز على قراءة رواية "اسم الوردة" للكاتب الإيطالي "إيمبرتو إيكو". فقد قررت أن أدوّن ملاحظات ترافق القراءة، مع أنني كنت قد قرأت الرواية عام 2015 في سياق تأليف كتابي المنشور عام 2016 "أوزبر جبرائيل- تفسير رواية عزازيل" وهو قراءة فلسفية في رواية يوسف زيدان المعروفة "عزازيل"، حيث لاحظت الكثير من التشابه في السرد وفي التيمات الأساسية لكلا العملين؛ في "اسم الوردة" يكتب الراهب البندكتي (الكاثوليكي) "أدسو"، بعد أن شاخ وقربت منيته الدنيوية، سيرة حياته على رقّ، مع ذكر للأهوال التي عايشها في "سبعة أيام"، ويدفنها في دير "مالك"، في القرن الرابع عشر الميلادي، بينما يدوّن هيبا الراهب القبطي الأرثوذكسي القادم من صعيد مصر باتجاه أنطاكيا عاصمة سوريا في تلك الأيام (القرنين الرابع والخامس الميلاديين) سيرة حياته في ثلاثين رقاً يذكر فيها الأحداث الرهيبة التي عاصرها. أدسو الراهب البندكتي (الكاثوليكي) يكون في رفقة الراهب الفرانشسكاني غوليالمو، تلميذاً وكاتباً له. وفرانشسكاني نسبة إلى القديس الإيطالي فرانسيس الإسّيزي. كل القديسين نظروا إلى السماء وقت الوجْد، إلا الإسّيزي فقد يمّم وجهه إلى الحضيض ليشاهد بعينه الربانية، عين العطف المهول، أولئك الذين نسيهم الله وهم يتمرغون في الوحل والصقيع.
أمّا الراهب هيبا المصري من أخميم بصعيد مصر، فقد كان في سوريا حين دوّن الأهوال التي رآها، في رفقة القس السوري نسطوروس، في دير بشمال غرب حلب.
ولد نسطوروس عام 381 م في بلدة مرعش شمال غرب سوريا. تربّى في أنطاكيا، وهناك ترهّب بدير أبروبيوس، وتتلمذ على يد المفسر الكبير تيودوروس المصّيصي. اختير بعدما تم إعداده وتعليمه وبعد دراسته للكتب شمّاساً ثم قساً في كاتدرائية أنطاكيا. اشتهر بفصاحته وقوة عظاته. كان معتداً بنفسه اعتداد المتنبي الشاعر. درس اليونانية ومبادئ العلوم في مرعش، ثم تشيع بمبادئ مدرسة أنطاكيا اللاهوتية، واختاره الإمبراطور ثيوذوسيوس الثاني ليكون بطريركاً على الكرسي للقسطنطينية. كانت مدرسة أنطاكيا اللاهوتية تميل إلى تعليم أرسطو الفلسفي معتمدة الاستعارة والقياس والبرهان، بينما مدرسة الإسكندرية تميل إلى تعليم أفلاطون معتمدة التمثيل والكناية وقصّ القصص. بالتالي رفض نسطوروس متأثراً بتعاليم سلفه آريوس الليبي في مصر الغربية ألوهة عيسى المسيح واعتبره نبياً من أنبياء الله ورسولاً لا إلهاً، على الضد من الفهم الأرثوذكسي في الإسكندرية ومعه الكاثوليكي الذي يرى في المسيح إلهاً فحسب. كان الصراع يدور على الطبيعة الواحدة أو الطبيعتين (لاهوت وناسوت) للمسيح.
داخلني مسّ بسيط من الخوف هو أقرب للتوجس، ربما هذا صوت قصف إسرائيلي والرد عليه بصواريخ سورية مضادة، لكن الأمر لم يكن كذلك


قرر مجمع افسس (431 م) ثالث مجمع بعد مجمع نيقيا، حرم نسطوروس وطرده واتهامه بالهرطقة، ونفي على أثرها إلى صعيد مصر، إلى بلدة أخميم، حيث قبره هناك مكباً للنفايات محتقراً بهرطقته التليدة. وأخميم هي نفسها البلدة التي خرج منها هيبا متجهاً مع مسار النيل في حركة مضادة من الجنوب إلى الشمال نحو أنطاكيا. مدوناً سيرته على رقوق بلغت ثلاثين رقاً، هي بعدد سنوات عمره وبعدد أيام الشهر الشمسيّ.
وأعود بعد هذا الاستطراد فأقول. كنت مضطجعاً في فراشي أدون ملاحظات على كتاب "اسم الوردة" لإيكو، والمطر ما يزال يسحّ في الخارج، الجو بارد ويسمع أصوات الرعد من بعيد بين الحين والحين. كانت الساعة قد بلغت الرابعة من صباح يوم الإثنين السادس من شباط، والخليقة قد استراحت بعد اليوم السادس للخلق. فقررت أن أستريح بعد نعاس خفيف راودني فنمت بخفة حين أيقظتني حركة غريبة لم أشهد لها مثيلاً من قبل قط. صوت الريح في الخارج غريب كأنها حمحمة وصرير مركبة ضخمة تتحرك ببطء وتحرك معها الريح؛ ريح باردة مدمدمة، قلت في نفسي، وقد داخلني مس بسيط من الخوف هو أقرب للتوجس، ربما هذا صوت قصف إسرائيلي والرد عليه بصواريخ سورية مضادة، لكن الأمر لم يكن كذلك، فبعد سماع الصوت الرهيب بدأ السرير يهتز اهتزازات تزعزع الثقة بالنفس وتسلب اليقين بالمكان، وبقدرة الإنسان على الحكم على المعطيات الحسية الملقاة أمامه. استمر الاهتزاز لأقل من دقيقة. قلت أيكون هذا الصوت صوت جناح جبريل، وأن وحياً قد نزل عليّ هذا النزول المخيف؟ وحدثتني نفسي قائلة: لكن جبريل لم يعد يجيء أحداً هذه الأيام، فعهد النبوات قد مر وخُتم وانقضى بخاتم الأنبياء النبي العربي محمد بن عبد الله. لقد زادت قناعتي بكلام نفسي أنني لم أسمع مع حركة الاهتزاز كلمة اقرأ! المعهودة في حال الوحي، بل كان الصوت حمحمة رهيبة تعطي إحساساً بالبرد والخطر، يرافقها اهتزاز، فانسللت من السرير انسلال الشعرة من العجين واتجهت شمالاً مُيمماً وجهي شطر باب غرفة زوجتي، وإذا بها مستيقظة وتردد بما يشبه الهستيريا: الله أكبر! الله أكبر! فقلت لها ما هذا الذي يحصل؟ قالت زلزال ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا معاً، قلت لها الله أكبر من الطغاة والمتجبرين والظالمين.
الذي تذكرته لاحقاً بعد انقضاء الحدث، أنني لم أفكر لحظة في الخروج إلى الشارع، وانتابني إحساس برقيّ أن الأمر انقضى على هذا الحال.
لكن الاهتزاز عاود كرّة أخرى وإن كان أخف درجة. قلت في نفسي: هذا الزلزال يستخدم تكتيكاً حربياً داعشيّاً؛ حيث كانت داعش تقوم بتفجير إرهابي وسط الحشود فيأتي بعدها المسعفون فتقوم بعمل تفجير ثان لإيقاع أكبر عدد من الضحايا بين المدنيين والمسعفين. وطالما أن هذا الزلزال داعشيّ لئيم لحصول هزتين متتاليتين بفاصل قصير، حصلت الثانية بعد أن اطمأن الأهالي وعادوا إلى منازلهم، فهو علامة غضب أو "دين غاضب" لم يعد يُحسن الدفاع عن عقائده بالحجة والكلمة الطيبة فقام ينسف أعداءه وخصومه ومخالفيه ويفجّرهم.
قالت زوجتي وهي بحالة أقرب إلى الهذيان، بعد قدوم موجات الهزة الثانية: هل يتهدم علينا البيت؟ قلت لها: لا. وقرأت عليها أنشودة "الطمأنينة" للكاتب اللبناني ميخائيل نُعيمة:
سقف بيتي حديد
ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح
وانتحب يا شجر
واسبحي يا غيوم
واهطلي بالمطر
واقصفي يا رعود
لست أخشى خطر
سقف بيتي حديد
ركن بيتي حجر
من سراجي الضئيل
استمد البصر
كلما الليل طال
والظلام انتشر
وإذا الفجر مات
والنهار انتحر
فاختفي يا نجوم
وانطفئ يا قمر
من سراجي الضئيل
أستمد البصر
ونمتُ على هدهدة الأنشودة؛ أنشودة ميكائيل (ميخائيل)، وأنا أفكر بمفردة "زلزال" وكيف اشتقها العرب. وأقول: زلّت قدمه فزال عن اليقين. يقول ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة": "(زَلّ) أصل مضطرد، تقول زلّ عن مكانه زليلاً وزلّاً، والماء الزُلال: العذب، لأنه يزِلُّ عن ظهر اللسان لرقته، والزَّلّة: الخطأ؛ لأن المُخطئ زلّ عن نهج الصواب، وتزلزلت الأرض: اضطربت، وزُلْزِلت زِلزالاً، والمِزَلّة: المكان الدَّحْض". ومكان دَحضٌ: مكان زَلَقٌ. وحجتهم داحضة: أي زلقة: أي زلقة زائلة لا تثبت للتفنيد. في الإنكليزية، حيث نقول: فرضية أو نظرية قابلة للدحض Falsifiability.

* كاتب سوري