بدا سؤال «أين قضيتم ليلة رأس السنة؟»، أشبه بـ«نكتة» بالنسبة إلى الكثير من السوريين. لم تكن لدى الغالبية الكبرى من هؤلاء، خيارات متاحة سوى «المنزل» الذي لا يتطلّب قضاء الليلة فيه إمكانات مادّية كبيرة، أسوةً بتلك التي يستلزمها «الإحياء» في المطاعم والمقاهي والفنادق والمنتجعات. هكذا، لم تتعدَّ أماني السواد الأعظم، اجتماع المحبّين على طبق منزلي لذيذ مع مدفأة ونصف ساعة من الكهرباء. ولكن على المقلب الآخر، في البلد ذاته، كانت غالبية حجوزات الأماكن السياحية قد أُغلقت قبل موعد رأس السنة بأيام، فيما لم يسجَّل فرقٌ في الإقبال بين الأماكن التي تطلب عشرات آلاف الليرات، والأخرى التي تحتاج إلى الملايين.
التقنين لا يستثني شيئاً
التقنين الذي بات في سوريا أسلوب حياة عند الأغلبية، طُبّق أيضاً على مصاريف ليلة رأس السنة، إذ يَظهر تغيُّر النمط الاستهلاكي للسوريين بشكلٍ واضح على موائدهم الاحتفالية؛ فالبعض يكتفي بسهرة منزلية مع سُفرة متواضعة، بعد أن كانت ترتيبات مثل هذا اليوم تتضمّن حضور حفل غنائي مع عشاء فاخر في الخارج. تقول وفاء، وهي من هؤلاء: «خلقْنا أجواءً احتفالية في المنزل على ضوء "اللّيدات" ومكبّر الصوت المشحون مسبقاً في ساعات الكهرباء القليلة التي تمنحنا إياها الدولة»، فيما أزال أحمد مِن على جدول السهرة «فقرة الشواء» والمشروبات والحلويات المتنوّعة، «وحتى دعوة الأصدقاء والجيران لم تكن كما في السابق، من باب توفير المصاريف»، كما يقول. أمّا رنا، التي ألغت فكرة الاحتفال من أساسها، خاصّة أنها لم تتمكّن من السفر إلى أهلها في محافظة اللاذقية بسبب ارتفاع أجور النقل جرّاء أزمة المحروقات الأخيرة، فتقول: «نمتُ من التاسعة مساءً، وبالتأكيد لم أخسر شيئاً لأنني لم أَحضر دخول بلدنا البائس العام الجديد». أمّا الوجه الإيجابي للتقنين، فيكمن في غياب حفلات إطلاق الرصاص الذي كان يملأ «السماوات» السورية مع بداية دخول العام الجديد، وبالتالي لا ضحايا تقريباً لـ«نيران الفرح الطائشة» لهذا العام.

الفرح لا يزال ممكناً
لا يحتاج إيجاد مساحة من الفرح وخلْق أجواء سعيدة إلى مال وفير من وجهة نظر البعض. ومن هنا، اقتصرت سهرة عائلة عزّام على اجتماع الإخوة والأخوات على «كاسة متّة والقليل من الموالح، والتنعّم بـ5 ليترات من المازوت ادُّخرت لهذا اليوم»، بينما لدى ولاء وأصدقائها، تَمثّل الاحتفال في التجوّل في باب توما وما حوله للاستمتاع بالزينة والألعاب النارية - على قلّتها -.
طُبّق التقنين أيضاً على مصاريف ليلة رأس السنة

أمّا إيفا فاكتفت بإعداد صنف من الحلوى لعائلتها، وعقْد جلسة تبادل الأحاديث مع الاستماع إلى الموسيقى، معتبرةً أن «هذا الشكل من الاحتفال يُدخل السرور إلى العائلة ويقلّل من تعب ربّات البيوت». ومع اختصار الزينة والأضواء الخاصة برأس السنة في مختلف أنحاء العاصمة لأسباب عدّة، بعضها معنوي على أساس أنه «ما في نفس»، كما يقول أبو جورج صاحب أحد المحالّ في دمشق القديمة، وبعضها الآخر مادّي بسببٍ من «عدم توفّر الكهرباء أو حتى البنزين لاستخدام المولّدات»، عملت إحدى شركات الإعلانات الخاصة على تزيين ساحة الأمويين في دمشق بالعديد من الأشكال المتّصلة بهذه المناسبة.

الانقسام الطبَقي يتعمّق
في «سوريا الإنستغرام»، حيث تستوطن الفئة التي تمثّل عائلات التجار وأصحاب الأموال وأبناء المسؤولين بمَن فيهم «البلوغرز» و«الفاشنيستات»، أو بتعبير آخر «الطبقة الفوقانية»، يَظهر الترف المبالَغ فيه في الاحتفاء برأس السنة، كما في كلّ مناسبة عامة أو خاصة، إلى درجة يشعر فيها معظم السوريين من أبناء «الطبقة التحتانية»، بأن أولئك يعيشون في كوكب آخر، ولا تربطهم بهؤلاء أيّ صلة أو مشاعر، في ما يجلّي الانقسام الطبَقي الحادّ الذي أصاب المجتمع السوري، وبلغ مراحل متقدّمة جداً. ويعتقد المراقبون الاقتصاديون أن ارتفاع الأسعار بشكلٍ مستمرٍّ منذ عام 2019، وتزايد أسعار الصرف الرسمية وغير الرسمية، وتصاعد معدّلات البطالة، ونقص الأمن الغذائي، كلّ ذلك أثّر سلباً بشكل كبير على نحو 75% من السوريين، وهم الفئة التي تعتمد على الرواتب والأجور من موظّفي القطاعين العام والخاص، والتي أصبحت تحت خطّ الفقر، وغير قادرة على تأمين متطلّبات الحياة، علماً أنها آخذة في الاتّساع. في المقابل، جاء تأثير تلك العوامل محدوداً على أصحاب الأعمال البسيطة، وأكثر محدودية أو معدوماً على التجّار ورجال الأعمال وموظّفي المنظّمات الدولية والمعتمِدين على الحوالات الخارجية المستمرّة، ما أدّى إلى تعميق الهوّة بين شرائح المجتمع.