خلال عودته من المشاركة في قمّة «مجموعة العشرين» التي عُقدت في إندونيسيا، أعاد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مرّة أخرى، تأكيد رغبة بلاده في الانفتاح على دمشق، مشيراً إلى أن لقاء يجمعه بالرئيس السوري، بشار الأسد، «ليس أمراً مستحيلاً»، معتبراً أنه «لا يوجد استياء أو خلاف أبدي في السياسة»، غير أنه أجّل الحديث عن لقاء من هذا النوع إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية المزمَع عقدها في شهر حزيران من العام المقبل. حديث إردوغان، والذي يأتي في سياق ترسيخ التوجّه التركي الجديد لإعادة العلاقات مع دمشق، بوساطة روسية - إيرانية، من شأنه مُضاعفة الضغوط على «الإدارة الذاتية» الكردية، والتي عبّر مسؤولون فيها، أكثر من مرّة، خلال الأسبوعَين الماضيَين، عن قلقهم من نتائج هذا التقارب، وآثاره المحتمَلة على المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد، بدعم أميركي.القلق الكردي الذي بدا واضحاً خلال لقاءات سياسية وندوات عدّة شهدتها مناطق «الذاتية»، يعيد إلى الأذهان حالات مماثلة عاشها الأكراد في الأعوام الفائتة، تقلّبوا خلالها في علاقاتهم بين تواصل مع دمشق، وانفتاح على موسكو، وتعلُّق بالحماية الأميركية، التي تمثّل في الوقت الحالي جدار الحصانة الوحيد لمشروعهم، خصوصاً أنه يؤمّن لواشنطن، في المقابل، سيطرة على المناطق النفطية بأقلّ عدد من عناصر الجيش، إلى جانب كوْنه ورقة ضغط مستمرّة على كلّ من دمشق وموسكو من جهة، وأنقرة من جهة أخرى. هذه التقلّبات برزت بوضوح خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي عمل على تجميد النشاط السياسي الأميركي في سوريا، وأراد إخراج القوّات الأميركية من هناك، قبل أن يتراجع ويحْصر وجودها في المناطق النفطية فقط. وعلى إثر ذلك التجميد، سارع مسؤولو «قسد» إلى البحث عن أبواب يمكن فتْحها مع دمشق وموسكو، في ظلّ الخطر التركي الذي وضعهم ترامب في دائرته حينها. إلّا أن عودة الولايات المتحدة إلى تعديل سياستها، وإحياء النشاط السياسي والعسكري مع تولّي الرئيس الحالي جو بايدن السلطة، أرجعت «قسد» إلى العمل على ترسيخ سيطرتها على مناطق نفوذها، وإغلاق الأبواب مرّة أخرى مع دمشق وموسكو، الأمر الذي دفع الأخيرتَين إلى الحديث صراحة عن عدم موثوقية أيّ حوار مع «الإدارة الذاتية»، في ظلّ حالة التذبذب الدائمة والانسياق للإرادة الأميركية، وفق تصريحات عديدة لمسؤولين سوريين وروس.
تقف «الإدارة الذاتية» أمام مجموعة من الخيارات المعقّدة في حال تمّ التقارب بين دمشق وأنقرة


وإلى جانب ذلك، تَبرز مشكلة أخرى يعاني منها أكراد سوريا تتعلّق بحالة الانقسام الكبيرة التي يشهدها المكوّن الكردي عموماً ما بين كيانَين: «قسد» التي تَنظر إليها أنقرة على أنها امتداد لحزب «العمال الكردستاني»؛ و«المجلس الوطني الكردي» الذي يتلقّى دعماً من تركيا، ويتمتّع بعلاقات متينة مع حكومة كردستان العراق، ويملك حضوراً في مسار الحلّ الأممي (اللجنة الدستورية)، على عكْس «قسد» البعيدة أو المُبعدة عن هذا المسار، غير أنه لا يتمتّع بوجود قوي وفعلي على الأرض في سوريا. كذلك، ثمّة داخل كلّ من هذَين الكيانَين مجموعة من القوى السياسية ذات المواقف المتفاوتة، الأمر الذي يُنتج بمجمله حالة «فوضى» لم تُفض الحوارات العديدة بين طرفَي الانقسام، أو داخل كلّ منهما، إلى أيّ نتائج موثوقة وواضحة يمكن البناء عليها لإنهائها.
في الوقت الحالي، تقف «الإدارة الذاتية» أمام مجموعة من الخيارات المستقبلية المعقّدة في حال تمّ التقارب بين دمشق وأنقرة، على رغم رغبة واشنطن في «تجميد الوضع الحالي»، ووقوفها موقف المتفرّج على العرقلة المستمرّة للحوار الكردي - الكردي كونها تصبّ في النهاية في صالح تلك العرقلة. وبينما يرتكز مشروع التوافق السوري - التركي على مجموعة ملفّات أبرزها رفْض الوجود الأميركي في سوريا، والذي يمثّل ستار الحماية الأخير لمشروع «قسد»، ما يعني أن أيّ تَغيّر في السياسة الأميركية سيؤدّي بشكل مباشر إلى سحْب هذا الغطاء، فلا يبدو أن مسؤولي «قسد» يعيرون ذلك اهتماماً على الرغم من مرورهم بتجارب مشابهة عديدة خلال الأعوام الماضية. على أن ثمّة أصواتاً داخل أروقة الأحزاب الكردية بدأت تُطالب باستباق الأحداث والاستعداد للمرحلة المقبلة، سواءً عبر الانخراط بشكل أكبر في المسار الروسي للحلّ في سوريا، أو عن طريق تنشيط الحوار مع دمشق، وفق مصادر كردية تحدّثت إلى «الأخبار». غير أن هذه الأصوات لا تلقى أيّ صدًى إلى الآن، في ظلّ انحياز قيادات «قسد» الكامل إلى القرار الأميركي، خصوصاً بعد تطمينات حصل عليها هؤلاء بأن القوات الأميركية ستبقى في سوريا خلال الأعوام المقبلة. وهو وعد يحاول المنادون بضرورة الانخراط في مسارات سياسية أخرى بعيدة عن واشنطن، إقناع شركائهم بأنه لا يمكن الوثوق به، نتيجة تجارب عديدة، سواءً على الساحة السورية حيث يُكشَف ظهر الأكراد للمسيّرات التركية، أو في دول أخرى مثل أفغانستان التي انسحبت منها القوات الأميركية تاركة وراءها جميع القوى التي كانت تحتمي بها، من دون جدوى، حتى الآن.