على عكْس التهديدات السابقة، جاءت التهديدات التركية بشنّ عملية عسكرية في سوريا، هذه المرّة، أقلّ حدّة واندفاعاً، سواء على لسان بعض المسؤولين، أو حتى في تصريحات الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي تحدّث ضمن خطوط عريضة خلال مؤتمر صحافي عَقده أثناء حضوره قمّة «مجموعة العشرين» (G20) في جزيرة بالي الإندونيسية. على أن تصريحات إردوغان الجديدة لم تَخْل من الإشارة إلى الدور الأميركي في دعم الأحزاب الكردية التي تَعتبرها أنقرة «إرهابية»، حيث قال إن «مَن يدعم التنظيم الإرهابي بحجّة محاربة "داعش" هُم أيضاً شركاء في كلّ قطرة دم تُراق». وجاء هذا الكلام استكمالاً لآخر مماثل أطلقه وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، الذي أعلن رفْض بلاده قبول تعزية السفارة الأميركية بضحايا تفجير إسطنبول، في وقت كانت ارتفعت فيه حدّة الاحتكاكات التركية - الأميركية في سوريا، إثر انحياز أنقرة إلى موسكو، وانخراطها في المسار الروسي للحلّ.وعلى الرغم من أن التصريحات التركية ظهرت أكثر انضباطاً، إلّا أن وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، ردّ على تهديدات أنقرة، بتحذيرها من محاولة استغلال تفجير إسطنبول والإقدام على «خطوات قد تزيد من الوضع القائم حدّة وتَفجّراً»، مذكّراً بالدور الذي لعبتْه تركيا في الحرب السورية، عبر فتْح حدودها لإدخال المقاتلين. وأشار إلى أن بلاده تستمع في الوقت الحالي إلى التصريحات التركية حول إمكانية رفْع مستوى العلاقات مع سوريا من الأمني إلى الدبلوماسي، مُجدِّداً ربْط ذلك بـ«القضاء على الإرهاب، والانسحاب العسكري من الأراضي السورية، ووقْف أيّ دعم لجبهة النصرة وتنظيم داعش»، معتبراً أن العمل بخلاف تلك الشروط «يبرهن على النيّات الحقيقية لهذه الإدارة التركية، رغم كلّ ما جرى من مباحثات خلال الفترة الماضية».
وتأتي التهديدات التركية الجديدة، والتي ربطها مسؤولون أتراك بالانتهاء من العملية القائمة حالياً في شمال العراق، في وقت تشهد فيه الساحتان الميدانية والسياسية سلسلة تَحرّكات ضمن مسارات عديدة. فمن جهة، تُتابع روسيا استعداداتها لعقد لقاء، هو التاسع عشر من نوعه، ضمن «مسار أستانة» في العاصمة الكازاخية نور سلطان، بمشاركة رفيعة المستوى من الدول الضامنة (روسيا وتركيا وإيران)، وحضور وفود من دمشق والمعارضة السورية، بالإضافة إلى مشاركة من لبنان والأردن والعراق، وسط توقّعات بأن يمثّل هذا اللقاء اختباراً فعلياً لخطوات التقارب السورية – التركية، وأن يقدّم دفْعاً لجهود إعادة النازحين واللاجئين. ومن جهة أخرى، كانت واشنطن بدأت إعادة تنشيط جهودها في الملفّ السوري، بهدف معاكسة المسار الروسي، سواء عن طريق محاولة إنشاء علاقات اقتصادية وميدانية مع فصائل منتشرة في ريف حلب تمكّنت أنقرة من إجهاضها، أو من خلال خلْق تجمّعات معارِضة جديدة تنشط من الولايات المتحدة، وإعادة وجوه بعيْنها إلى الأضواء مجدّداً، مِن مِثل رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب، وشخصيات معارضة أخرى تعيش في قطر.
مسؤولون أميركيون قدّموا تطمينات جديدة لـ«قسد» بعدم حدوث أيّ تقدّم برّي تركي


وتُبدي مصادر كردية، في حديث إلى «الأخبار»، مخاوفها من استثمار تركيا تفجير إسطنبول - والذي نفى مسؤولون في «الإدارة الذاتية» وقائد «قسد» مظلوم عبدي تورُّط أيّ حزب كردي فيه - لرفْع مستوى الهجمات التي تنفّذها مسيّرات تركية ضدّ مواقع لـ«قسد»، لافتةً إلى أن القوات الكردية المنتشرة على جبهات القتال بدأت بالفعل اتّخاذ خطوات لمواجهة ذلك، بالإضافة إلى تعزيز القيود الأمنية على تحرّكات قياديّي «قسد» و«حزب الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود «الإدارة الذاتية»، خصوصاً أن وتيرة الهجمات عبر المسيّرات ارتفعت بالفعل، وفق المعلومات. وتتحدّث المصادر الكردية عن تطمينات جديدة لـ«قسد» بعدم حدوث أيّ تقدّم برّي تركي في الوقت الحالي، من دون ضمانات بخصوص غارات الطائرات من دون طيّار، والتي كانت تركيا اتّخذتها بديلاً بعد تعثّر حصولها على موافقة روسية - أميركية على شنّ عملية كانت تأمل من خلالها قضْم مناطق في ريف حلب، أبرزها تل رفعت ومنبج. وتَعتبر المصادر التهديدات التركية الجديدة «محاولة لجسّ النبض مرّة أخرى حول إمكانية شنّ مِثل هذا الهجوم، بالنظر إلى الموقف الأميركي والروسي، والحالة الميدانية المعقّدة التي تعيشها مناطق سيطرة أنقرة شمالاً بعد الاقتتال الفصائلي، وفي ظلّ عمليات إعادة هيكلة الفصائل الجارية حالياً».
وإلى جانب ما تَقدّم، تستهدف التصريحات التركية الجديدة، أيضاً، تهدئة الأجواء الداخلية التي شهدت تصاعداً كبيراً في خطاب الكراهية ضدّ اللاجئين السوريين، على خلفية استغلال هذا الملفّ في العملية الانتخابية الرئاسية. ولربّما يكون من شأن هذا التصاعد دفْع إدارة إردوغان إلى تسريع وتيرة ترحيل اللاجئين السوريين، الذين تُقدّر الداخلية التركية عددهم في الوقت الحالي بنحو 3.5 ملايين سوري، بعد ترحيل أكثر من 500 ألف إلى مساكن مؤقّتة ضمن مشروع «مدن الطوب».