بين الجدّ والمزح يناقش السوريون كل يوم تقريباً وضع الكهرباء في مناطقهم، مستخدمين منصات التواصل الاجتماعي، خاصة «فايسبوك»، في التنفيس عن غضبهم. لا تعجبهم تصريحات حكومتهم مهما كانت، يستهزئون بخروج محطات توليد الكهرباء عن الخدمة، ويجعلون من معلومات عن نقص الغاز نكتة، كما يتهمون التجار ومن يساندهم بالاشتراك في هذه «الجريمة بحق الإنسانية»، كما وصفتها حملة «#أوقفوا_قطع_الكهرباء»، بغية تحقيق الربح من وراء «تجرة» ألواح الطاقة الشمسية، وما سبقها من بيع للبطاريات والمولّدات واللدات وغير ذلك. أما الحلول فكانت بالمجمل تحت عنوان «الاعتياد على العيش من دون كهرباء دائمة»، فالظروف المعيشية الصعبة التي تعاني منها الأغلبية تحول دون الوصول إلى الحلول المعروفة لغياب الكهرباء.
أحلامٌ تحتاج إلى كهرباء

كأس من الماء البارد في نهار يوم درجة الحرارة فيه تزيد على 40 درجة مئوية، أصبحت حلم الكثير من السوريين. وعلى رغم من انتشار بيع الثلج في الشوارع والمحالّ فإن الجشع في هذه التجارة، كغيرها الكثير، جعل الحصول على قطعة من لوح ثلج عسيراً لدى بعض المواطنين.

لكن أن تشرب ماءً حتى لو لم يكن بارداً أفضل بكثير من أن تحلم بالحصول عليه مهما كانت درجة حرارته. فبعض المناطق في ريف العاصمة من الصعب وصول المياه إليها من دون تشغيل محطات ضخ المياه التي تحتاج إلى طاقة كهربائية، وعندما تصل تكون ضعيفة يحتاج المنزل فيها إلى «شفّاط ماء كهربائي» لسحب المياه.

فادي (33 عاماً)، أحد سكان مدينة جرمانا، يقول: «مع زيادة ساعات تقنين الكهرباء والماء معاً، أصبح وصول الماء إلى تلك المنازل يحتاج إلى معجزة، ما يضطر السكان لشراء ماء الشرب والاستخدام في الكثير من الأحيان». وبعدما تفاقمت المشكلة وضجّت فايسبوكياً، كان الحل إعفاء مدينة جرمانا ليلاً من التقنين بهدف تأمين التغذية لمضخات المياه فيها. يقول أحد الموظفين في المؤسسة العامة لمياه دمشق وريفها، رفض ذكر اسمه: «نعمل على التنسيق مع وزارة الكهرباء لاستثناء محطات ضخ المياه من التقنين في عدة مناطق بالتناوب، إلى جانب السعي لتركيب ألواح طاقة شمسية تشغّل تلك المحطات».

أعمال مع وقف التنفيذ

وفق شيراز (24 عاماً)، من أحلام المواطنين التي يحتفلون بتحقيقها على وسائل التواصل الاجتماعي: «انتهاء وجبة الغسيل في الغسالة في ذات يوم البدء، كي الملابس قبل الخروج المفاجئ، سشوار الشعر قبل الذهاب للعمل، الدراسة وقت الامتحان بوجود مروحة تعمل!».

تعطّلت الأشغال بشكل ملحوظ بسبب غياب الكهرباء، سواء ما يتبع منها للحكومة أو القطاع الخاص وحتى الأعمال الحرة. حل «المولدات» ليس متوافراً للجميع، خاصة مع ارتفاع سعر البنزين الذي يشغّلها. لم يعد مستغرباً إعلان موظفي أحد فروع بنك حكومي استراحة تصل إلى 4 ساعات خلال اليوم يقضونها في شرب المتة والقهوة. تقول راميا: «لا حواسيب تعمل ولا هم يحزنون»، ولا عجب أيضاً من تسريح ربّ عمل شركة خاصة لتنظيم المعارض عدداً من موظفيه بسبب قيام القسم الباقي منهم بالأعمال المطلوبة خلال توفر الكهرباء، ومن بينهم عمر الذي يقول إنّ الأهم «تحليل الراتب» الذي يتقاضاه، أي جعله حلالاً، فهو بالفعل لا يقوم بعمل فعلي أكثر من ساعتين يومياً.

ذلك عدا عن إغلاق ورش تصنيع الطعام، وخاصة الألبان والأجبان، وتحويل بعض المهن إلى أخرى لا تحتاج إلى كهرباء، كما حصل مع الكوا عبدو الذي تخلى عن مصلحة والده وحوّل المحل إلى بيع الخُضر والفواكه بدلاً من انتظار الكهرباء كل يوم. وأسوأ ما في الأمر، كما ترى أمّ إبراهيم (56 عاماً)، هو تأثير ساعات التقنين الطويلة على شحن البطاريات المنزلية التي تضعف في بعض الأوقات إلى حدّ تصبح غير قادرة على تشغيل راوترات الإنترنت. وتقول: «الرفاهية الوحيدة التي نحصل عليها في هذه الأيام هي الإنترنت وأصبحت مقنّنة أيضاً».

البراد «نملية»... وحالات تسمّم

يبدو أن فكرة تخزين الطعام وحفظه مجمّداً من موسم إلى آخر باتت خارج اهتمامات السوريين بعدما خسروا ما خسروه جراء فساد المونة التي خزّنوها العام الماضي بسبب انقطاع الكهرباء الطويل عن الثلاجات والفريزرات. ففي ذروة فترة غياب التيار الكهربائي (10 ساعات متواصلة في العاصمة وأكثر من ذلك في الريف) انطلقت حملات «الندب» العشوائية من السوريات اللواتي لم يتحمّلن كارثة فقد مؤونة سنة كاملة (بازيلاء، فول، ذرة، طماطم، ورق عنب، الفاصولياء، أرضي شوكي،... إلخ).

والخسارة لم تكن مادية فقط، رغم أنها بلغت لدى بعض الأسر مئات الآلاف، بل معنوية أيضاً. تقول سميرة (ربّة منزل) إن حزنها أيضاً كان على جهدها وتعبها اللذين «راحا بالأرض». «شغل المونة» أخذ من روحها، حسب تعبيرها. «الله لا يسامح اللي كان السبب بهي الخسارة».

أمّا أمّ أحمد، فقامت بتوزيع المونة المخزّنة لديها في الثلاجة على جيرانها ليستخدموها في أسرع وقت قبل أن تفسد نهائياً. «سنتجه إلى طرق أخرى لحفظ المونة كالماء والملح مثلاً»، كواحدة من الخطط التدبيرية القليلة في المطبخ لمواجهة ساعات التقنين الطويلة.

في السياق ذاته، أعلنت الكثير من النسوة في أحاديثهن اليومية عن تحوّل ثلاجة البيت إلى «نملية» (الخزانة الخشبية حافظة الطعام التي كانت تُستخدم في خمسينيات القرن الماضي). فعدم وجود كهرباء لوقتٍ كافٍ لتبريد الثلاجة جعل حفظ الطعام فيها مجرّد حماية من الحشرات والغبار، وأصبحت خطة ربات البيوت تقوم على طبخ وإعداد طعام يكفي ليوم واحد فقط، وإلا سيذهب ما تبقّى منه إلى القمامة.

وقبل التأقلم مع فكرة أن الثلاجة مجرّد «نملية»، تعرّض أبو رامي (70 عاماً) لحالة تسمّم بسبب تناوله كوباً من اللبن مضى على وجوده في الثلاجة التي وصلتها الكهرباء ساعتان في الـ24 ساعة. وعن حالات التسمّم، يقول الدكتور مضر الحريري لـ«الأخبار» إنه قد سُجّل «ارتفاع في حالات التسمّم الغذائي في فترة الصيف ومع زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي».

ومع كل ذلك، هناك من يسعى إلى تطبيق الحلول المتاحة على قِلّتها. والحالة المادية هي التي تحكم مَنْ بإمكانه تركيب ألواح طاقة شمسية لتوليد الكهرباء: معدّل وسطي 5 ملايين ليرة سورية، أي ما يساوي 50 ضعفاً لأعلى راتب موظفٍ حكومي. أو الاشتراك مع الجيران في مولد يعمل على البنزين بمعدّل 150 ألف ليرة سورية شهرياً، ما يعادل راتب شهرين تقريباً.