تتحرّك المنطقة على وقع أحداث جسام، ليس آخرها الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي بدا أقرب إلى الهروب. وفي وقت احتدمت فيه التعليقات بخصوص تداعيات هذا الانسحاب على مناطق توتّر أخرى في العالم، تصدَّرت الساحة السورية تلك التي يمكن أن تكون التالية في الانسحاب الأميركي. وفي ضوء ما تقدَّم، كثُرت المواقف وتعدّدت، مستشرفةً ما يمكن أن يحدث في سوريا، وآخرها ما صدر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثناء اللقاء الذي جمعه إلى نظيره السوري بشار الأسد، في موسكو، قبل أيّام. وخلال القمة الرئاسية، أطلق بوتين مواقفَ تستحقّ التوقّف عندها:1- قال إن القوات الحكومية تسيطر على 90% من الأراضي السورية. ومع أن كثيرين يتمنّون ذلك، فهم يعرفون أن هذه الأرقام ليست دقيقة. فالقوات السورية ليست موجودة في كلّ المناطق التي يوجد فيها الجيش التركي أو المسلّحون الموالون له، بدءاً من جرابلس وعفرين وإدلب وصولاً إلى مناطق أساسية بين تل أبيض ورأس العين. أيضاً، فإن «قوات سوريا الديموقراطية» تسيطر، برعاية أميركية، على كلّ المناطق المتبقّية من شمال شرق الفرات وصولاً إلى الحدود العراقية. وهذه المناطق شاسعة، وتشكّل مع مناطق احتلال تركيا أكثر من 30% من مساحة سوريا.
2- قال أيضاً إن الإرهابيين تكبّدوا أضراراً هائلة، وهذا صحيح، لكنه لفت إلى أن القوات المسلّحة الأجنبية الموجودة من دون قرار من الأمم المتحدة، ومن دون موافقة دمشق، تحول دون عودة سوريا واحدة موحّدة. وهذا أيضاً صحيح. لكن الواقع يشير إلى أن الوجود الأميركي هو الوحيد الذي لا يحظى بموافقة موسكو. لكن الأخيرة، ونظراً إلى توازنات القوّة في سوريا، مضطرة للتعامل مع الولايات المتحدة وفق مبدأ تقاسم النفوذ. ومن جهة ثانية، تتحمّل روسيا مسؤولية كبيرة، وربّما كاملة عن تدخّل الجيش التركي واحتلاله أراضي سوريا في إطار عمليات «درع الفرات»، و«غصن الزيتون»، وأخيراً «نبع السلام»، إذ أعطته ضوءاً أخضر ليحتلّ ما احتلّه من مساحات بحجّة محاربة تنظيم «داعش» من جهة، ومن جهة ثانية حتّى لا تسقط هذه المناطق بيد الأكراد وتالياً الأميركيين. وذلك ليس دقيقاً؛ فالأكراد لم يكونوا ضمن نطاق عمليات «درع الفرات»، وكان يمكن أن يقوم الجيش السوري، بدعم من روسيا، بعملية للسيطرة على مثلّث جرابلس ـــ إعزاز ـــ الباب. أمّا عفرين، حيث كان يسيطر الأكراد، فكانت على تواصل جغرافي وسياسي واقتصادي مع المناطق السورية الخاضعة لسيطرة الدولة دون غيرها، ولا خوف عليها من قدوم الأميركيين. وبخصوص إدلب، فإن تركيا وأنصارها من المسلّحين احتلّوها من دون اعتراض روسي فعليّ. وفي ما يتعلّق بمناطق شرق الفرات، فإن الجيش التركي لم يدخل المنطقة ما بين تل أبيض ورأس العين، إلّا بعد توقيع اتفاقين رسميين، أحدهما مع واشنطن في أنقرة، والآخر مع موسكو في سوتشي، في تشرين الأول 2019. وهكذا، نجد أن وجود القوات التركية حيث هي، غير شرعي، ولا يحظى بأيّ موافقة من جانب الدولة السورية، لكنه يحظى بقبول ورضى روسيَّين، وهو ما يتناقض مع ما أدلى به بوتين.
تشير الوقائع إلى أن الوجود الأميركي هو الوحيد الذي لا يحظى بموافقة موسكو


ليس تسجيل هذه الملاحظات أبداً دعوة إلى فكّ التحالف بين دمشق وموسكو؛ فبفضل القوات السورية والحليفة والدعم الروسي عظيم الشأن لها، منذ عام 2015، أمكن الوصول بالبلاد إلى خريطة السيطرة الحالية. ومع هذا، فإن الحراك الميداني لاستكمال التحرير الكامل يبدو بطيئاً جدّاً. وهنا، يمكن الحديث عن ثلاث جهات يفترض أن يتمّ التعامل معها، كلّ بحسب حيثيّتها:
- الأولى هي القوات الأميركية التي تبدو خيارات الضغط عليها متعدّدة لإجبارها على الخروج من البلاد، لكن ذلك يحتاج فقط إلى موافقة ضمنية روسية لم تأتِ بعد.
- الثانية هي القوات التركية والمسلّحون الموالون لها. فالاحتلال التركي قد طال، ومع كلّ يوم يمرّ، تتعزّز التغييرات الجغرافية والاجتماعية والسكانية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والأمنية، بحيث تتحوّل مناطق الوجود التركي إلى مناطق ملحقة بتركيا من جميع النواحي، ما من شأنه أن يفاقم من تعقيدات أيّ مفاوضات مستقبلية حولها بين دمشق وأنقرة، مع عدم إغفال أن كلّ مناطق الشمال السوري تدخل ضمن أطماع تركيا للعودة إلى احتلال ما يسمّى بمناطق «الميثاق الملّي» الذي رسم حدوده البرلمان التركي في عام 1920. كما لا يفوت المراقب أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، يتعامل مع «الشيطان» في مناطق أخرى من العالم، ولا يريد مجرّد الحديث إلى الرئيس السوري أو الاعتراف به. وتبرز، هنا، تصريحات أدلى بها وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، حول وجود محادثات مع دمشق، ليأتي ردّ الأخيرة عنيفاً بنفي صحة تلك التصريحات. وفي الحقيقة، فإنّ اللقاءات ذات الطابع الاستخباري لا تنقطع بين أيّ بلدين حتّى في أحلك الظروف، لكن المهمّ هو ما يتعدّى المستوى الاستخباري، من مثل لقاء مدراء عامّين أو محافظين، وصولاً إلى الوزراء ورؤساء الحكومات فرؤساء الجمهورية. وهذا كلّه لم يحصل. ويجيء كلام جاويش أوغلو في غمرة استعداد سوري مبدئي لتحرّك عسكري ضدّ إدلب، كي يهدّئ من اندفاعة السوريين ويوصل رسالة خادعة برغبة تركيا في اللقاء معهم. وفي سياق الموقف من الاحتلال التركي، لم تظهر موسكو حتّى الآن أمام أنقرة أيّ حزم في دفْع الأخيرة نحو سحْب قواتها من سوريا وإحلال الجيش السوري بدلاً منها، مع استمرار العمل بـ«اتفاقية أضنة» التي على رغم كونها سيّئة لسوريا إلّا أنها تضمن الأمن المبدئي لكلا الطرفين.
- والثالثة هي «قوات سوريا الديموقراطية»، وعصبها «قوات حماية الشعب» الكردية. وهذه القوات جزء من النسيج الاجتماعي السوري، ولها مطالبها أسوة بكل الفئات السورية. وإذا كانت لها مطالب ذات خصوصيات جغرافية أو مناطقية أو اجتماعية أو ثقافية، فهذا مكانه على طاولة المفاوضات. فكما على «الحالة» الكردية أن تكون جزءاً من الدولة السورية، كذلك على دمشق أن تتفهّم مطالب مختلف الفئات بما يراعي هواجسها من جهة، ويحفظ وحدة سوريا وسيادتها من جهة ثانية. وكما على الدولة أن تتحرّك من منطلق كونها الحاضنة، فإن الأكراد ومَن معهم يجب أن يفكّوا بصورة مطلقة رهانهم على المحتلّ الأميركي حتى لا يجدوا أنفسهم في لحظة داهمة في مواجهة الجيش التركي وقد تخلّت عنهم أميركا، وهذا دأبها. والمسؤولية مشتركة بين الدولة السورية والأكراد وكلّ الفئات السورية الأخرى، ولا تقع على عاتق طرف دون آخر.
وما يلفت النظر في خضمّ كل هذه التطوّرات، تصريحات رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، لوكالة أنباء كردية، أعاد الإعلام التركي التركيز عليها. وجاء فيها أن «تركيا لا تعترض على أيّ صيغة يتّفق عليها السوريون في ما بينهم حتى لو كانت الفدرالية، فيما تعارض إنشاء كيان إرهابي (كردي) على حدودها مع سوريا». وفي هذه المواقف، يشجّع داود أوغلو، كما النظام التركي، على تقسيم سوريا بما يضمن بقاء مناطق موالية لتركيا. وفي الوقت نفسه، يبرّر احتلال بلاده لشمال سوريا بذريعة منع الأكراد من إقامة «كيان إرهابي» هناك. ويرى داود أوغلو، الذي يترأّس حزب «المستقبل» الصغير المعارض لإردوغان، أن «عيش الأكراد في عفرين بثقافتهم ولغتهم في ظلّ إدارة بحماية تركيا، سيكون نموذجاً جميلاً».