تُهدّد الألغام الأرضية حياة آلاف المدنيين السوريين الذين عادوا إلى مدنهم وقراهم عقب انتهاء العمليات العسكرية فيها. ويزيد من خطورة الأمر أن بعض الألغام لا يزال مدفوناً حتى اليوم، في أماكن مجهولة لا يمكن تحديد موقعها، ما يعني المزيد من الضحايا، وعلى امتداد سنوات مقبلة. ويلفت مصدر عسكري مطّلع، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «عدم وجود خرائط للألغام في سوريا يجعل عملية إزالتها مهمّة صعبة للغاية، وتتطلّب عشرات السنين، بسبب عدم القدرة على معرفة أماكن حقول الألغام كافة»، مضيفاً أن «عملية إزالة الألغام تُمثّل تهديداً حقيقياً للسكّان، وبالأخصّ الأطفال، فهم الفئة الأكثر عُرضةً لهذا الخطر الذي قد يمتدّ لسنوات بعيدة». كما يصعب اكتشاف هذه الألغام لصغر حجمها وتصميمها بأشكال مختلفة، منها ما يجذب الأطفال كالألعاب، وأخرى مزروعة داخل هواتف نقّالة، مثل تلك التي صادفت علي الصالح (22 عاماً) عام 2015، بعد أن ضغط على أحد أزرار هاتف محمول، لينفجر في وجهه، ويبتر يديه، وتطال شظاياه عينيه أيضاً. ويقول علي لـ"الأخبار": «وجد عمّي هاتفاً نقّالاً في شارع الستين في مدينة حمص، فأعطاني إيّاه لآخذه إلى الصيانة، وحين ضغطت على زرّ التشغيل، انفجر بين يدي، ما تسبّب في بترهما من المعصم، كما فقدت النظر إثر دخول شظايا في العينين». تَمكّن علي، أخيراً، من استعادة بصره بعد عدّة عمليات جراحية خضع لها، فيما حظي بطرفَين اصطناعيَّين «بلا فائدة» كما يصفهما، فما كان منه إلّا أن تخلّص منهما: «ركّبت طرفين اصطناعيين من نوع تجميلي، لكنهما غير مجديَين، فهما يعيقان حركتي عوضاً عن مساعدتي، مجرّد هيكل لا أكثر، لم أتمكّن من وضعهما، فتخلّصت منهما وبقيت من دون طرفين». وبفقدان الشاب يديه، فقد معهما حلمه بتقديم الثانوية الصناعية، إذ يشير إلى أن «الثانوية تعتمد بشكل أساسي على مهارة الرسم، وبالتالي استخدام اليد، وبسبب انعدام فائدة الطرف الصناعي التجميلي، لا يمكنني إكمال دراستي». إلى جانب ذلك، فقد الشاب الأمل في نيل عمل يناسب وضعه الصحي، حتى وصل الأمر به إلى الاستجداء وطرق أبواب المسؤولين. «قدّمت طلبات توظيف كثيرة، ما حدا وافق، الكل بيوعدك وبيخذلك، من الآخر، بدن إمّا واسطة أو مصاري وأنا ما عندي التنين، حتى التقيت بالصدفة وزير الصحة، ووعدني، ولهلق ما صار شي»، يختم علي حديثه.
يصعب اكتشاف هذه الألغام لصغر حجمها وتصميمها بأشكال مختلفة

بدورها، لم تكن تعلم رنا (22 عاماً) أنها لن تسير على قدميها بعد تاريخ 2/6/2015، الذي غيّر مجرى حياتها نهائياً. فالشابّة انفجر فيها لغم أرضي لدى عودتها من الجامعة إلى منزلها في إحدى قرى ريف حماة الشرقي. هذه المرّة، كانت الجهة المسؤولة عن زرع الألغام هي تنظيم «داعش». تقول الشابة لـ«الأخبار»: «كنت في طريقي إلى البيت، فدست بقدمي على لغم كان على شكل علبة بلاستيك، انفجر في وجهي، وقذفني عدة أمتار في الهواء، فقدت ساقيّ، وأصبت ببعض الجروح الموزّعة على أنحاء جسدي». تحتاج الشابة، حتى تتمكّن من استعادة قدرتها على المشي، إلى تركيب ساقَين إلكترونيَّين، وليس من نوعية تلك الأطراف الاصطناعية التجميلية، لأن مساحة المنطقة المبتورة لديها كبيرة. تنتظر رنا حصول معجزة ما، تستعيد بها قدرتها على المشي، وتأمل أن يتبرّع لها أحد الأغنياء أو جمعية خيرية بذلك، سواء كانت محلية أم دولية، نظراً إلى كلفة الأطراف الإلكترونية العالية: «قدّمَت لي إحدى الجهات أطرافاً اصطناعية أشبه بأجسام البوليستر التي تعرض الملابس الجاهزة، لا تستطيع حملي، لأن منطقة البتر لديّ تمتد من القدم إلى أعلى الركبة، وفي حالتي هذه، لا تنفعني الأنواع التجميلية، بل فقط الأطراف الذكية، لذلك نزعتها عني، واستبدلتها بكرسي متحرك". وعن معاناتها في الحصول على عمل، تلفت إلى أن "نسبة العجز لديّ تصل إلى 100%، وتخوّلني الحصول على عمل بدون منّة أحد، لماذا كل هذا الذلّ؟ لا نملك أيّ حقوق، فقط لكوننا جرحى مدنيين، هذه هي الإجابة المعهودة عند طلب أيّ تعويض أو وظيفة»، مضيفة أن ثمّة «جمعية خيرية واحدة فقط تهتمّ بأحوال الجرحى المدنيين، وهي ترسل لهم مبلغاً مالياً صغيراً شهرياً».
كعشرات الفتيان، كان محمد (17 عاماً) يلهو مع أصدقائه في صبيحة يوم آذاري في العام 2016، في أحد أحياء وادي بردى في ريف دمشق، إلى أن وقعت عيناه على صندوق حديدي، فدفعه فضوله لالتقاطه، لينفجر به. يقول محمد: «في ذلك اليوم، كنا قرابة 10 فتيان مجتمعين معاً، نلهو ونلعب، فالتقطتُ صندوقاً مصنوعاً من الحديد، ثمّ رميته على مرمى حجر، فانفجر بنا وأصيب الجميع، لكن إصابتي كانت بالغة، وقد فقدت نظري بالكامل، وبُترت يدي اليمنى، أما الآخرون فكانت إصاباتهم طفيفة، ومِن بينهم أخي». مذّاك، باءت كلّ محاولات محمد للحصول على عمل بالفشل؛ إذ «حاولت جاهداً تقديم طلبات عمل أو منح مالية لتمويل المشاريع الصغيرة، كبقالية صغيرة مثلاً، لكن لا يوجد أيّ ردّ، وإن وُجد، يكون مع الرفض، والسبب أننا جرحى مدنيون».
يتقبّل جرحى الألغام واقعهم الجسدي بمرارة. لكن ما يشقّ عليهم تقبّله هو تهميشهم وحرمانهم من حقوقهم كجرحى، ليس لشيء، سوى لأنهم مدنيون وليسوا عسكريين. لا فرص عمل لهم، ولا إعانات حكومية، ومنهم مَن يعيل عائلته، أو هو ربّ أسرة تحتاج إلى مَن يرعاها. يُتركون لمصيرهم مع جروحهم التي سترافقهم العمر كلّه، مضافاً إليها العوز، و"ذلّ الجمعيات الخاصّة"، إن وُجدت.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا