في الوقت الذي سجّلت فيه قيمة العملة السورية انهيارات غير مسبوقة، دفعت إلى موجة تضخّم كبير في أسعار السلع الغذائية، بدأت الأزمة تتهدّد كمّيات القمح المدعوم الذي تؤمّنه الحكومة السورية ويشكّل مصدراً أساسياً، وأحياناً وحيداً، لغذاء العائلات السورية المتضررة أصلاً بشدة جراء سنوات الحرب والحصار الاقتصادي المفروض والعقوبات الأميركية الأخيرة في إطار قانون «قيصر».وكانت دمشق قد خفّضت إنتاجها من القمح بشدّة منذ بدء الحرب، غير أنها عوّضت النقص الداخلي بالاستيراد. اعتادت سوريا إنتاج 4 ملايين طن، في أعوام وفرة الإنتاج قبل الحرب، واستطاعت تصدير 1.5 مليون طن كفائض. أمّا في العام الجاري، وبحسب وكالة «رويترز»، فتقدّر «منظّمة الأغذية والزراعة» التابعة للأمم المتحدة أن سوريا «أنتجت ما بين 2.1 مليون و2.4 مليون طن». وتتوقّع الحكومة، بحسب تصريحات لمسؤولين، أن يبلغ الإنتاج الوطني 2.8 مليون طن في نهاية موسم هذا العام، لكن الطلب المحلي على القمح يبلغ حوالى 4 ملايين طن، ما يعني أنه يجب سدّ العجز بالاستيراد. غير أن مناقصات الاستيراد التي تنظّمها «المؤسسة السورية العامة للحبوب»، لاقت ـــ بحسب «رويترز» ـــ فشلاً متكرراً منذ العام الماضي. وفي حين أن العقوبات الغربية لا تقيّد مشتريات الغذاء، بشكل مباشر، إلا أن القيود المصرفية وقرارات تجميد الأصول التابعة للحكومة ورجال أعمال مقرّبين منها، جعلت من الصعب على معظم الشركات التجارية إبرام تعاملات مع سوريا، ما صعّب عمليات استيراد القمح أكثر. وكانت الحكومة تعمد إلى استيراد القمح من المصدر إلى لبنان، عبر رجال أعمال ووسطاء، ثم يتمّ نقله إلى سوريا، لكن هذا الخيار لم يعد متاحاً اليوم، بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة التي يشهدها لبنان، بالإضافة إلى قانون «قيصر» الذي يحظر مثل هذه التعاملات.
خيار لبنان لم يعد متاحاً بسبب الأزمة هناك، بالإضافة إلى «قيصر»


تقدّر «منظمة الأغذية والزراعة» أن حوالى 700 ألف طن من المحصول الإجمالي تُزرع في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة هذا العام. غير أن محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، التي تنتج أكثر من 70% من الإنتاج الكلي، تقع في معظمها في أيدي «قوات سوريا الديموقراطية» المدعومة من واشنطن. وهذا العام، للمرّة الأولى، لجأت «قسد» إلى رفع سعر شراء القمح المحلّي إلى مستوى أعلى من التسعيرة الحكومية، بل ربطته أيضاً بالسعر السائد للدولار، وتعهّدت بدفع 17 سنتاً أميركياً للكيلوغرام الواحد مهما انخفض سعر الليرة، ما شكّل إغراءً للمزارعين المحليين ودفع معظمهم إلى بيع محاصيلهم للإدارة الذاتية الكردية، لا الحكومة السورية. وبالإضافة إلى التنافس على الشراء هذا، تمنع القوات الكردية أي مزارع في مناطق سيطرتها من بيع محصوله إلى الحكومة. ونقلت «رويترز عن رئيس مجلس الاقتصاد والزراعة في شرقي الفرات، سلمان بارودو ، قوله إنه «تم حتى الآن شراء 400 ألف طن»، كما «حذّر من أي محاولة لتهريب المحصول خارج المنطقة».
وتعدّ روسيا ــــ أكبر مصدر للقمح في العالم ــــ مورّداً دائماً للقمح إلى سوريا، لكن حجم مساعدات القمح الروسي لا يلبّي كل طلب دمشق. وقال مصدر في قطاع القمح الروسي لـ«رويترز» إن «الإمدادات مستمرة. ومع ذلك هناك مشاكل في السداد وفي توفّر السفن المستعدّة لتسليم شحنات لتلك الوجهة»، بسبب العقوبات الغربية والأميركية. وقدّر المصدر أن «حوالى 150 ألف طن فقط من مبيعات القمح التجارية، وصلت إلى سوريا في الفترة من تموز/ يوليو 2019 إلى أيار/ مايو 2020». وقال ممثّل «منظمة الأغذية والزراعة» التابعة للأمم المتحدة في سوريا، مايك روبسون، لـ«رويترز»، إن «ثمّة أدلّة بالفعل على أن الناس بدأوا يستغنون عن وجبات». وأضاف: «إذا ظلّت العملة تحت الضغط، فسيكون من الصعب الحصول على الواردات، وربما تشهد الأشهر التي تسبق محصول القمح لعام 2021 نقصاً حقيقياً». وفي خلال الأشهر الستة الأخيرة وحدها، تشير بيانات «برنامج الأغذية العالمي» إلى أن «عدد الذين يُقدّر أنهم لا يشعرون بالأمن الغذائي في سوريا ارتفع من 7.9 ملايين فرد إلى 9.3 ملايين».