قبل نحو سبعة عشر عاماً، وقف الرئيس السوري، بشار الأسد، في قصر بعبدا، معلناً عن ستّ خطوات اقتصادية مشتركة مع لبنان، كان أبرزها دراسة تأسيس مصنع للغزل والنسيج، وآخر للتبغ والتنباك، ومصفاتين لتكرير النفط في طرابلس والجنوب، إضافة إلى إزالة جميع القيود بين البلدين لتسهيل تبادل المنتجات. آنذاك، مَثّل الإعلان السوري توجّهاً جديداً لدى دمشق في إدارة ملف العلاقة مع لبنان. وعلى الرغم من أن الأحداث التالية في المنطقة، وفي لبنان خصوصاً، لم تكتب لذلك التوجّه الجديد الاستمرارية، إلا أن الخطوة سلّطت الضوء على فرص اقتصادية كثيرة يمكن للبلدين استثمارها في حال توفّر الرغبة أو الإرادة السياسية، بالإضافة إلى إمكانية تجنب مشاكل تبدو تأثيراتها السلبية اليوم أكثر وضوحاً، بدءاً من فاتورة الاستيراد المرتفعة لـ«حوامل الطاقة» ونقصها، وصولاً إلى صعوبة تسويق المنتجات الزراعية والصناعية خارجاً، والمنافسة الإقليمية لمرافئ البلدين وتجارة «الترانزيت» فيهما وغير ذلك.
المقاربات الاقتصادية في السابق لم تكن دقيقة، بل إن كثيراً منها حادَ عن جادّة الصواب

البلدان، بحسب الخبير الاقتصادي زياد عربش، هما في «قلب نظام النفط والغاز العالمي، وهما أيضاً في موقع جيواقتصادي استراتيجي بامتياز، لذا هما محطّ أنظار اللاعبين الدوليين، الأمر الذي يحتّم عليهما بناء وتأسيس المشروعات الاستراتيجية وفقاً لمصالحهما المشتركة أولاً، وليس للحصول على بخشيش أو عوائد ترانزيت». ويضيف عربش، في حديث إلى «الأخبار»، إن «المشاريع البينية بين البلدين هي في غاية الأهمية لكليهما، بما فيها التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية لكلّ منهما وفقاً لحاجاتهما الداخلية وليس إرضاءً لمصالح الآخرين. كذلك الحال بالنسبة إلى تطوير المرافئ والطرقات والسكك الحديدية، بحيث تكون هذه المشروعات أقطاباً مشعّة للنمو، وليست ممرّات عبور وطرقات دولية من دون أثر تنموي»، وخصوصاً في ظلّ محاولة بعض الدول إما تحييد المرافئ السورية واللبنانية عن واجهة التجارة الإقليمية والعالمية لمصلحة المرافئ التركية والإسرائيلية، أو التضييق عليها عبر حصارها بالعقوبات وقطع المنافذ البرية ورفع بدلات التأمين والنقل والمخاطر وغيرها. ولعلّ الموقف الأميركي من فتح معبر نصيب الحدودي، والضغوط التي يمارسها على الجانب الأردني للحيلولة دون استعادة المعبر نشاطه الاقتصادي، خير دليل على ذلك التعطيل، على رغم معرفة الأميركي بأن لبنان متضرّر أساسي منه.

تصدير الحمضيات
يعاني ملف الصادرات الزراعية من مشكلة مزمنة في كلا البلدين، زادت خلال السنوات الماضية مع خروج المعابر الحدودية عن سيطرة الدولة السورية. ويعتقد أحد الخبراء السوريين العاملين في منظمة أممية أن «هناك فرصة ذهبية لمشروع سوري ــــ لبناني مشترك لتصدير المنتجات الزراعية، بحيث تكون البداية مع الحمضيات التي يفيض إنتاجها عن حاجة الاستهلاك المحلي لكلا البلدين، وذلك عبر تشغيل خط منتظم لتصدير الحمضيات السورية واللبنانية من مرفأ اللاذقية إلى روسيا، ولا سيما أن هناك جهوداً سورية سابقة في هذا الملف».

التعاون المصرفي
حتى في القطاعات التي يحقق كلّ بلد فيها تمايزاً عن الآخر، تبدو فرص النجاح كبيرة وطموحة. فمثلاً، القطاع المصرفي في لبنان، والذي أتاح للدولة اللبنانية خلال عقد من الزمن عوامل صمود في مواجهة أزمات كبيرة، بدءاً من اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، مروراً بالعدوان الإسرائيلي عام 2006، فالأزمة المالية العالمية، يمكن أن يشكل بوابة لتعاون مصرفي سوري ــــ لبناني ناجح على مستوى المنطقة، يتمثّل وفق ما يرى عربش في «إقامة مصرف استثمار مشترك، وتعاون مصرفي بين البلدين يخدم اقتصاد واستقرار سعر صرف العملة في كلّ منهما، ومواجهة أيّ أزمة عالمية».

المشاريع الصناعية
وبالطريقة نفسها، يمكن العمل في إطار تعاون صناعي مشترك. فالتفوق الصناعي السوري، وتوقع زيادة الطلب على السلع والمنتجات بفعل عملية إعادة الإعمار في سوريا، يدفعان نحو مناقشة أفكار تخرج عن الإطار الثنائي لتشمل تنفيذ مشروعات صناعية مشتركة مع دول أخرى كالصين وروسيا وماليزيا وغيرها. وهو ما يضمن للاقتصاد اللبناني تنويع استثماراته، التي لا تزال وفق ما يعتقد المصرفي عامر شهدا «حكراً على قطاعَي المصارف والسياحة بشكل أساسي، على رغم أن لبنان بلد زراعي يملك نافذة واسعة على البحر المتوسط، إضافة إلى قربه من الأسواق الأوروبية».
ومع الأخذ بالحسبان وجود نظامين اقتصاديين مختلفين تماماً في سوريا ولبنان، حيث «في لبنان كلّ شيء هو مكسب، والقاعدة تقول: دعهُ يأتِ، أما في سوريا فإن كلّ شيء على ما يرام، لذلك فالقاعدة هي: دعه يذهب. وفي لبنان الانفتاح مع عيون مفتوحة، وفي سوريا الترشيد مع عيون مغلقة غالباً»، وفق ما يفنّد الباحث الاقتصادي سعد بساطة في حديث إلى الأخبار، فإن «المقاربات الاقتصادية في السابق لم تكن دقيقة، بل إن كثيراً منها حادَ عن جادّة الصواب لأسباب عدة، منها اتسام صناع القرار بالبعد عن الحيادية، واتخاذ بعضهم قرارات لا تصبّ في مصلحة الطرفين»، بحسب ما يعتقد بساطة. أما اليوم، فإن كلّ هذه الفرص الاستثمارية، وغيرها الكثير، والتي أساسها التعاون، تبقى رهناً بـ«انفتاح سياسي» يدفع نحو مفاوضات ثنائية لإعادة رسم خريطة جديدة للعلاقات الاقتصادية، تستند في جوهرها إلى تحقيق مصالح الطرفين وحمايتها، بعيداً عن أيّ حسابات سياسية ضيقة أو خارجية، وإلا فإن خسائر البلدين ستبقى على حالها، وربما تتعمّق أكثر مع المتغيرات المتسارعة في المنطقة واشتداد الصراع الدولي تحت مسميات عدّة. ولهذا، يرى بساطة أن الحلّ «هو في عقد لقاءات مستمرّة وحثيثة بين ممثلي القطاعات كافة، لتوضيح المكاسب والخسائر في كلّ قطاع، انطلاقاً من أن العلاقة بين البلدين يمكن وصفها بزواج كاثوليكي لا يمكن فصم عراه أبداً».