مع بداية العملية العسكرية في شرقي الفرات، كان أمام تركيا ثلاثة تحديات: الأول، عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قرار الانسحاب؛ الثاني، مقاومة «قوات الحماية الكردية» للجيش التركي؛ والثالث، تفاهم الأكراد مع الدولة السورية على مقاومة التدخل التركي. وفي ظلّ توصل الأكراد إلى اتفاق مع دمشق، يكون هذا هو التحدي الأكبر الذي ستواجهه تركيا. كانت أنقرة تراهن دائماً على انقسام السوريين، وعلى تقاطع المصالح مع موسكو. لكن تلافي الخطأ الذي حصل في عفرين، والذي أتاح احتلال الجيش التركي لها، كان نقطة التحول في التطورات الأخيرة. التقاء دمشق والأكراد وحده كان الكفيل بتغيير المعادلات والتوازنات، وهو ما حصل الأحد الماضي مع إعلان الاتفاق بين «قوات سوريا الديموقراطية» والدولة السورية، والقاضي بانتشار الجيش السوري في مناطق المواجهة مع الجيش التركي لحماية الأراضي السورية ومنع تقدم الجيش التركي، وصولاً إلى دفعه إلى الانسحاب إلى داخل الأراضي التركية.من الصعب التنبّؤ منذ الآن بما ستؤول إليه المفاوضات بين دمشق والأكراد. فهؤلاء، الذين خسروا بالمجّان عفرين، كانوا مضطرين وقلقين من احتمال تبخر أحلام «الإدارة الذاتية» على امتداد أكثر من خمس سنوات. لكن الخطأ الأكبر الذي جعل الأحلام تتبدّد هو السقف العالي للمطالب من جهة، والرهان على الأميركي لحمايتهم من جهة أخرى. ومنذ لحظة إعلان ترامب قرار الانسحاب الأول قبل أكثر من سنة، كان على الأكراد أن يتحسّبوا لقرار انسحاب آخر مفاجئ، لكن لم يفعلوا ذلك. الانسحاب الأميركي والعملية التركية وضعا الأكراد في موقع صعب للغاية، قد يفضي إلى إبادتهم من جانب «عدو» يعبّئ الرأي العام التركي منذ سنوات ضدّ «الكوريدور الإرهابي الكردي». لقد اختار الأكراد، للمرة الأولى، القرار الصحيح؛ حماية الوجود أولوية على أيّ مشاريع كيانية أو انفصالية. وفي ظلّ الدور الروسي الممسك بأطراف خيوط لعبة الدمى، لا يُعتقد أن الأكراد سيخرجون من «مَولِد» التفاهم الاضطراري من دون «حُمّص» مكاسب. في النهاية، انسحاب الأميركي وظهور الخطر التركي أنتجا اتفاق شراكة في مواجهة العملية التركية.
مع انسحاب الأميركي والاتفاق السوري – الكردي، بدا التركي مرتبكاً وساخطاً، فارتفع سقف خطاب الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ضد الجميع، من سوريا والأكراد إلى جامعة الدول العربية، ولاسيما السعودية ومصر. وهرع إردوغان إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين، يهاتفه مُعلِناً أنه لن يُقدِم على خطوة في سوريا إلا بالتفاهم مع بوتين. كما سارع رئيس الأركان التركي خلوصي آقار إلى الاتصال بنظيره الروسي لويس شويغو. وفي ذلك مؤشران على أن خيوط اللعبة بكاملها قد أصبحت بيد روسيا. ستكون تركيا مكرهة على التوغل لمسافة محددة تحفظ ماء وجهها، وستقبل بانتشار الجيش السوري على الحدود والمناطق المتبقية. ولدى اكتمال الانسحاب الأميركي، ستكون شروط انعقاد مؤتمر لتسوية الأزمة عالية. طبعاً، الأمور ليست بهذه البساطة، ولا يُتوقع أن توافق تركيا على الانسحاب من سوريا في تسوية بين الأطراف المعنية لمجرد توفير الضمانات لأمنها وفقاً لاتفاقية أضنة. وكما يتحسّر الكردي على رؤية مشروعه الاستقلالي يتبخر، فلن يكون سهلاً على إردوغان أيضاً رؤية حلمه العثماني بالعودة إلى حدود «الميثاق الملّي» يتعثّر. ومن هنا، لا يُستبعد أن تكون جبهة إدلب، حيث كلّ الفرق الجهادية وبالآلاف، مسرحاً لحركة تركية تحاول أن تربك التحالف السوري الكردي الجديد. ومن هذا تحريك الجماعات المسلحة المتوحدة، أخيراً، تحت اسم «الجيش الوطني»، ومن ضمنها منظمات مصنفة إرهابية، لمحاربة الجيش السوري و«قوات الحماية الكردية».
في الداخل التركي بدأت تتسع قائمة القوى المعترضة


ظهور تركيا منعزلة خلق إحباطاً لديها وشعوراً بـ«الخيانة». فعلى رغم ترحيبها بقرار ترامب الانسحاب، ربما فوجئت بهذا الكمّ الكبير من الانتقادات المُوجّهة للعملية في كلّ أوروبا، الأمر الذي دعا الكاتب في صحيفة «حرييت»، فؤاد بول، إلى دعوة الحكومة التركية إلى فتح الحدود مع أوروبا وترحيل اللاجئين السوريين إليها، إذ يقول الكاتب: «لا يمكن التعامل مع صديق، هو حلف شمالي الأطلسي، أصبح عدواً، بنفس الطريقة». وكم كان لافتاً ردّ الفعل التركي على تعادل تركيا مع فرنسا في مباراة كرة القدم، حيث ابتهج الأتراك بها كما لو أنهم حققوا انتصاراً وانتقاماً من فرنسا التي فرضت، مع دول أوروبية أخرى، حظراً للسلاح على تركيا، وقادت حملة ضد التدخل التركي في سوريا. كما كان لافتاً من فريق «سانت باولي» في الدرجة الثانية في ألمانيا أن يصدر بياناً يعلن فيه إخراج اللاعب التركي، جنك شاهين، من صفوفه لأنه غرّد دعماً لعملية «نبع السلام».
يعترف الجميع في الداخل التركي بأن تركيا افتقدت أيّ دعم دولي للعملية. وترى صحيفة «غازيتيه دوار» أن بيان جامعة الدول العربية سيسرّع عودة سوريا إلى الجامعة. ولكنها تذكر في المقابل، نقلاً عن مصادر سورية، أن الاتفاق مع الأكراد يشمل الجوانب العسكرية من دون أن يحارب الأكراد كجزء من القوات السورية، وإنما بإشراف القيادة العسكرية السورية. أما الجوانب السياسية، فتقول الصحيفة إن الاجتماع بين دمشق والأكراد، والذي عُقد في قاعدة حميميم، أرجأ البحث في الجوانب السياسية إلى مرحلة لاحقة. ومن نتائج الاتفاق أن يتمثّل الأكراد في اللجنة الدستورية، وهو ما يعتبر فشلاً للدبلوماسية التركية. وتخلص الصحيفة إلى أن الرابح الأكبر حتى الآن من التطورات هو النظام السوري، كما لو أن إردوغان عمل لمصلحة بشار الأسد أكثر بكثير مما فعله بوتين حتى الآن. وهذا ما كان واضحاً لأصحاب البصيرة قبل الآن بكثير، تضيف «غازيتيه دوار». أما صحيفة «قرار» فتعتبر أن اللعبة القذرة قد نسجت بين موسكو وواشنطن: الجنود الأميركيون ينسحبون من منبج ليدخلها الجيش السوري.
وبدا من خلال العقوبات الأميركية الاقتصادية على تركيا كما لو أن واشنطن دفعت أنقرة إلى الانزلاق في المستنقع السوري، بإعطائها الضوء الأخضر ومن ثم سحب البساط من تحت قدميها. فإلى مواقف ترامب نفسه، ووزير الخارجية مايك بومبيو، الداعية تركيا إلى سحب قواتها من سوريا، أعلن وزير الخزانة الأميركي أن العقوبات ستطال ثلاثة وزراء، هم: وزير الدفاع خلوصي آقار، والداخلية سليمان صويلو، والطاقة فاتح دونميز، وهم من ركائز قوة إردوغان الحكومية. كذلك، تعمل واشنطن على تشديد الخناق على تركيا عبر مواقف مندّدة لـ«حلف شمالي الأطلسي»، فيما يهدد إردوغان بإعادة النظر في علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي.
وإذا اعتبرنا «جمهورية» شمال قبرص التركية بلداً خارجياً وليس جزءاً من الداخل التركي، فإن «المصيبة» التركية تكبر مع موقف رئيسها، مصطفى أكنجي، الذي أعلن منذ اليوم الأول للعملية اعتراضه قائلاً إنها ليست «نبع سلام» بل «نبع دماء». وهو ما دعا الكاتب الإسلامي المعروف أحمد طاش غيتيرين إلى القول إن العملية أساءت جداً إلى صورة تركيا في الخارج، إلى درجة أن رئيس قبرص التركية يدين العملية «من دون أن ننسى كم أساءت العملية إلى العلاقات التركية العربية. وهذا يؤكد المثل القائل: لا صديق للتركي سوى التركي، لذلك على أنقرة أن تنفتح على العالم بلغة جديدة».
وفي الداخل التركي بدأت تتّسع قائمة القوى المعترضة. فإلى مواقف رئيس حزب «الشعب الجمهوري»، فإن «الحزب الجيد» دعا أنقرة إلى الجلوس مع دمشق. ولعلّ المفارقة تتمثل في أنه على رأس «المتحوّلين» سياسياً، منظّر العداء مع سوريا أحمد داود أوغلو، الذي غرّد داعياً تركيا إلى الاجتماع مع كلّ الأطراف في سوريا، وبناء سوريا وشرق أوسط جديدين. ويرى الباحث فؤاد قايمان أن الخيوط كلّها تضغط في اتجاه فتح حوار لم تكن تريده أنقرة بين تركيا وسوريا. والنتيجة التي وصل إليها إردوغان، برأي قايمان، كانت بسبب الأخطاء الكبيرة في مقاربة الأزمة السورية، والتي أوصلت تركيا إلى هذا الوضع المربك. ويقول قايمان إن تركيا اختارت القوة الخشنة العسكرية على القوة الناعمة، لكن هذه المقاربة ليست كافية في ظلّ بقاء تركيا وحيدة في هذه المعركة.