لم تمرّ فرحة السوريين بإنتاج قمح وفير قد يقارب هذا العام 2.5 مليون طن بعد سنوات عجاف، حوّلت البلاد من منتج إلى مستورد بفاتورة مرتفعة، على خير، إذ سارعت جهات مجهولة إلى إشعال حرائق في حقول القمح والشعير في جميع المناطق المنتجة من دون استثناء. وعلى رغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بالحقول، خرجت تأكيدات متفائلة بأن التأثير سيكون محدوداً في ظلّ إنتاج مبشّر يعدّ الأفضل منذ عقود.تحوّلت حرائق حقول القمح والشعير إلى كابوس يومي للفلاحين الذين ينتظرون دورهم في الحصاد، وسجّلت سابقة من حيث المساحات التي طاولتها، لم يسبق أن شهدتها البلاد من قبل. وعلى رغم أن هذا الكابوس شمل جميع المناطق المنتجة لمحصولَي القمح والشعير، إلا أن الحسكة كانت صاحبة النصيب الأكبر من الحرائق، علماً بأن الإنتاج المتوقع حالياً لهذه المحافظة تجاوز 800 ألف طن من القمح، ومثلها للشعير.
في جولة على امتداد طريق تل براك ــــ القامشلي، تتصاعد ألسنة اللهب والدخان من الحقول الزراعية في القرى الممتدة من قرية خربة الجدوع، وصولاً إلى قرية خراب عسكر، على طريق القامشلي ــــ تل حميس. المعلومات المتداولة هناك تقول إن الحرائق (حتى الأربعاء الماضي) التهمت محاصيل 15 قرية بالكامل، لترتفع مساحة الأراضي المحروقة إلى أكثر من 140 ألف دونم للشعير، و110 آلاف دونم للقمح. وفي هذا السياق، يكشف معاون مدير الزراعة في الحسكة، رجب السلامة، في حديث إلى «الأخبار»، أنه «رغم الحرائق المؤلمة التي طاولت محاصيل الفلاحين هذا العام، إلا أن المساحات التي احترقت لا تصل إلى حدود 8 في المئة من المساحات المزروعة بالقمح والشعير»، لافتاً إلى «بقاء التفاؤل بموسم وفير». كذلك، يشير المدير العام لـ«السورية للحبوب»، يوسف قاسم، إلى أن مؤسسته «تسلّمت بعد أيام قليلة من فتح المراكز أكثر من 111 ألف طن، من بينها 56 ألف طن في الحسكة». ويتوقّع قاسم أن تشهد المراكز الحكومية «إقبالاً واسعاً خلال الأيام المقبلة، بما يضمن تحقيق نسب تسلّم عالية هذا العام».

اتهامات... وتقصير
في مناطق شرق الفرات الخارجة عن سيطرة الدولة، يتّهم الفلاحون «قوات سوريا الديموقراطية»، ومِن خلفها قوات «التحالف الدولي»، بافتعال الحرائق، بينما تتجه أصابع الاتهام في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة إلى بعض التجار و«دواعش الداخل»، الساعين للحفاظ على مكاسب الاستيراد. وهو ما يشير إليه ابن محافظة الحسكة، دحّام السلطان، الذي تعرّض محصوله للحرق بفعل فاعل، حيث التهمت النار 250 دونماً في قرية رجم فرحان التابعة لناحية تل براك في ريف الحسكة، وشوهد الفاعل المجهول من دون التمكن من القبض عليه. هنا، لا يستبعد رئيس اتحاد الفلاحين في الحسكة، دياب الكريم، افتعال الحرائق للضغط على الفلاحين، لكنه لا يجزم بحصول ذلك نظراً الى عدم وجود أدلة لديه. وبينما يرى أن تكرارها على نحو كثيف مقارنة بالأعوام السابقة يحمل مؤشراً قوياً على افتعالها، يلفت إلى وجود أسباب أخرى تتعلق بكثافة الأعشاب حول سنابل القمح والشعير، بسبب الأمطار الغزيرة، والحرارة المرتفعة، بما يجعل احتمال تعرض الحقول للحرائق وارداً. ويتحدث الكريم عن تشكيل «فريق عمل» من 40 شخصاً تقريباً ينشط على مدار اليوم للتقليل من ضرر الحرائق، مع قيام أصحاب الأرض أنفسهم بحراستها، مؤكداً أن «نسبة الضرر حتى الآن ليست كبيرة».
رئيس قسم التصنيع والتسويق في اتحاد الفلاحين، خطار عماد، شدد على أن جزءاً كبيراً من الحرائق كان مفتعلاً، «في استكمال لمخطط الحصار الاقتصادي وتنفيذ أجندة خارجية»، واصفاً هذه الحرائق بـ«الإجرام الاقتصادي... كونه لا يضرّ الفلاح فقط، وإنما جميع مكونات المجتمع»، متحدثاً في المقابل عن وجود حرائق سببها الإهمال والحرارة المرتفعة. وبؤكد وجود استنفار فعلي للإطفاء، مضيفاً إن الجيش السوري تدخّل أيضاً مع الروابط والجمعيات الفلاحية والفلاحين للمساهمة في عمليات الإخماد، لافتاً إلى وقوع «شهداء جراء هذه الحرائق والمساعدة في إطفائها». وبيّن عماد أنه «مهما بلغت نسبة الحرائق، فذلك يشكل خسارة للفلاحين في ظل تعبهم وتكبّدهم تكاليف كبيرة لزراعة أرضهم». وفي اتصال «الأخبار» بمدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة، عبد المعين قضماني، لمعرفة الأضرار الناتجة من الحرائق، أوضح أنه «لم يتم حتى الآن حصرها بدقة، مع وجود فريق معني يستقصي الخسائر ويقدّرها، ليتم بعد ذلك إبلاغ صندوق الكوارث والجفاف لتعويض الفلاحين».
كشف وزير الزراعة أن وزارته تعمل على إصدار قانون للتأمين الزراعي


لا إطفاء!
يغيب مشهد انتشار سيارات الإطفاء على جانبي الطرقات والمفارق العامّة في محافظة الحسكة للعام التاسع على التوالي، بعدما اعتاد سكان المحافظة استنفار معظم فرق الإطفاء في المحافظات لمصلحة موسم الحصاد، ما كان يسهّل السيطرة على أي حريق سريعاً. غياب هذا المشهد في ظلّ خروج معظم جغرافية المحافظة عن سيطرة الحكومة السورية، وسيطرة «الإدارة الذاتية» على غالبية أفواج وسيارات الإطفاء، وعدم خبرة العاملين لديها في التعامل مع الحرائق، كلها عوامل أدت إلى توجيه اتهامات إلى «الإدارة الذاتية» بالتقصير. وفي المقابل، أكد مسؤولو «الإدارة» أن «اتّساع رقعة المساحات المحروقة، لكونها في غالبيتها مفتعلة وتهدف إلى الإضرار باقتصاد المنطقة، رفع من صعوبة تغطية المساحات الواسعة بفرق وآليات الإطفاء اللازمة، والتي تحتاج الى إمكانات هائلة للسيطرة عليها».
الفلاح دحّام السلطان يتحدث عن صعوبة إطفاء الحرائق في المناطق الواقعة خارج سيطرة الدولة حالياً، والتي يصف مستوى الخدمات فيها بأنه «صفر»، إذ يعمد الفلاحون إلى إطفاء الحرائق بأدوات بدائية عبر استخدام الجرّارات الزراعية وصهاريج المياه، بشكل أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمزروعات، معتبراً أن افتعال هذه الحرائق يأتي ضمن «مخطط لتدمير اقتصاد سوريا وتجويع شعبها وإجبار الأهالي على الهجرة وسرقة أراضيهم». يوافقه الرأيَ أحد فلاحي دير الزور، الذي رفض ذكر اسمه خوفاً من حريق ثانٍ يستهدف أرضه، التي تلِف إنتاج أكثر من 300 دونم منها من القمح والشعير، إذ يعتبر أن ثمة «أيادي خفية تحاول العبث بالاقتصاد السوري وقوت الفلاحين»، وذلك بدعم من «التحالف» والتجار، قائلاً: «يكفي رمي عقب سيجارة أو وضع عدسة صغيرة في الأرض ليتم حرق المحصول بأي لحظة عند ارتفاع درجات الحرارة، وقد يبدو الأمر غير مفتعل، لكنه بالحقيقة مدبّر لغايات معروفة الأهداف».

هموم ومخاوف
أمام هذه الموجة غير المسبوقة من الحرائق، يبدي الكثير من الفلاحين تردداً في زراعة محاصيلهم العام المقبل، خشية تحوّل الحرائق إلى ظاهرة سنوية تطاول المحاصيل، وهو ما يشكل خطراً على مستقبل الزراعة. يقول أبو محمّد، الذي نجا محصوله هذا العام في إحدى قرى عامودا، بعدما حصده قبل وصول النيران إليه، إن «المحصول الذي نجا هذا العام قد لا ينجو العام المقبل، ما يجعل من فكرة الزراعة أمراً غير واقعي بغياب الأمان». كذلك، تبرز مشكلة عدم قدرة الكثير من الفلاحين الذين تعرضت أرزاقهم للحرائق على تأمين البذار والسماد وأُجرة الفلاحة للموسم المقبل، ما يدفع الكثيرين منهم الى المطالبة بالتعويض. ويفيد وزير الزراعة، أحمد القادري، في تصريح إلى «الأخبار»، بأن «المساحات التي طاولتها الحرائق في عموم البلاد هي 55 ألف هكتار من إجمالي المساحة المزروعة في البلاد، والمقدّرة بـ 346 ألف هكتار»، مشيراً إلى أن الحرائق «غير مشمولة بصندوق الكوارث والجفاف، ولا تستوجب التعويض». ولا يبدي الوزير تخوفاً كبيراً، مشدداً على ضرورة «تضافر جهود المجتمع للسيطرة على الحرائق ومنع انتشارها». ويكشف الوزير أن وزارته «تعمل بالتعاون مع وزارة المال لإصدار قانون للتأمين الزراعي، يمكّن الفلاحين من التأمين على أراضيهم وزراعاتهم، ويتيح تعويضهم في حال حصول أي ضرر»، وهو ما سيشكل «حالة أمان بالنسبة الى الفلاحين لعدم تكرار مأساة الموسم الحالي مع الحرائق».

جريمة اقتصادية!
لا يضع الخبير في الشؤون الزراعية والمستشار في اتحاد الغرف الزراعية، عبد الرحمن قرنقلة، احتمالاتٍ لحرائق محاصيل القمح والشعير، إذ يجزم بأنها مفتعلة وتأتي «استكمالاً لحزمة العقوبات والجرائم الاقتصادية». ويضيف قرنقلة إن افتعال الحرائق جاء بعد نجاح الحكومة في استخدام جميع الوسائل المتاحة لنقل مستلزمات الإنتاج إلى مناطق زراعة القمح، مُتغلّبة على العوائق التي وضعتها العصابات الإرهابية وقوات التحالف»، لافتاً إلى أن حرائق القمح في سوريا تزامنت مع حرائق مماثلة في العراق، والهدف «إنهاك اقتصاد البلدين، ومنع نهوض قطاعاته المنتجة، وإبقاء الشعبين تحت رحمة تجار الاستيراد».