فشلت أذرع إسرائيل العملياتية في الجنوب السوري، خلال سنوات الحرب الأولى، في تحقيق حلم تل أبيب في رسم حزام أمني عازل داخل الأراضي السورية، تحرسه فصائل المسلحين المتعاونين مع العدو. ولأن ثمن المزيد من الدفع باتجاه دعم هؤلاء لم يأت بنتيجة سوى هزيمتهم وتقدم الجيش السوري وحلفائه نحو الحدود مع الجولان المحتل، وجدت حكومة الاحتلال مصلحتها في تسوية تَضْمن الحد الأدنى من أمن حدودها، مع الرضوخ لحقيقة أن لا أمل من الإبقاء على الفصائل الجنوبية التي سرعان ما تهاوى أغلبها. هكذا، تقاطعت مصالح كلّ من إسرائيل التي ألفت نفسها عالقة أمام خيارين: التصعيد وما يحمله من مخاطر أمنية استراتيجية أو التسوية المشار إليها، وروسيا التي كانت بدأت الإعداد للتسويات مع الفصائل الجنوبية ونجحت في تحييد بعضها، والأردن الذي بات قلقاً من تمدّد «داعش» في حوض اليرموك ونحو حدوده. ولكي تكتمل «الصفقة» التي باركتها الولايات المتحدة، بدت ضرورية الاستعانة بنفود السعودية والإمارات، التي يملك ضباطها ورجال استخباراتها الموجودون في الأردن نفوذاً كبيراً لدى المسلحين.
تصميم: سنان عيسى | أنقر على الصورة لتكبيرها

ضابط رفيع في الجيش السوري، من المتابعين لمجريات الجبهة الجنوبية طوال سنوات الحرب، يشرح لـ«الأخبار» الظروف التي أحاطت بتسوية الجنوب، قائلاً إن «الجبهة الجنوبية لم تكن بالنسبة إلى المسلحين جبهة هشّة أو بسيطة، بل كانت جبهة قوية يديرها ضباط أجانب، ويدعمها أطراف عديدون أبرزهم إسرائيل. لذا، كان الأمر الأهم بالنسبة إلى الجانب الروسي هو البحث عن التسويات التي برع فيها، تجنّباً لمعارك طويلة ومنهكة، مستغلاً علاقته الطيبة بالعدو الإسرائيلي، المعني الأول بالجبهة الجنوبية. لكن تفكيك جبهة كالجنوب لن يكون مجّانياً طبعاً».
ويستذكر الضابط في حديثه سرعة انهيار الفصائل المسلحة وتفكّكها وانخراطها في التسويات، مبيّناً أنه «عقب عقد اتفاق خفض التصعيد في الجنوب السوري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 بين روسيا والولايات المتحدة والأردن، بدأت شخصيات معروفة في الجنوب بالعمل على ترجمة التوجه الإماراتي ميدانياً، بالتنسيق مع الجانب الروسي، إذ بعد أقل من شهر على توقيع الاتفاق، بدأ نائب رئيس الهيئة العليا للمفاوضات المشكّلة في مؤتمر الرياض، خالد علوان المحاميد، وبتنسيق مع استخبارات دولة الإمارات ــــ حيث يقيم ويعمل ــــ توفير الاتصال بين أحمد العودة قائد قوات شباب السنّة (فصيل مسلح وازن يسيطر على جزء كبير من ريف درعا الشرقي)، وهو شقيق زوجة المحاميد، وبين الضبّاط الروس الذين تسلموا ملف التسويات هناك. استمرت هذه الاتصالات، وفُعّلت إلى حدها الأقصى بشكل سرّي، إلى أن جاء الوقت المناسب للاستفادة منها بشكل قاطع».
يجهد عناصر الشرطة العسكرية الروسية في تحقيق الهدوء التام على الحدود مع الجولان


وبالعودة إلى بداية معركة استعادة السيطرة على الجنوب السوري، يبدو لافتاً أنه، وبشكل مفاجئ، وُقِّع اتفاق «منفرد» بين فصيل «شباب السنّة» التابع للعودة، والجانب الروسي. وقضى الاتفاق حينها بتسليم هؤلاء سلاحهم الثقيل إلى الشرطة العسكرية الروسية، والانخراط في تسويات مع الحكومة السورية، الأمر الذي أحدث خلافات بين فصائل الجنوب، أدّت إلى سقوطها بعد ذلك بفترة وجيزة. كذلك، تكرّرت التجربة في بعض القرى الحدودية في ريفَي القنيطرة ودرعا الشمالي الغربي، حيث دفع الإسرائيليون بشكل غير مباشر فصائل المسلحين المتعاونين معهم إلى عقد تسوية مع الجانب الروسي تقضي بتسليم سلاحهم، وعودة سلطة الدولة السورية إلى مناطق سيطرتهم. في خلاصة المشهد، بدا كأن اتفاقاً كاملاً قد عقد بين الأطراف المذكورين برعاية موسكو، التي حرصت من جهة على تنفيذ الاتفاق الضمني مع تل أبيب القاضي بانسحاب «المستشارين العسكريين الإيرانيين» من الجنوب السوري ـــ وهو مطلب مشترك بين إسرائيل والإمارات والسعودية والأميركيين ـــ مقابل انتشار الجيش السوري على الحدود مع الجولان المحتل، وإعادة فتح معبر نصيب مع الأردن. ومن جهة أخرى، عزّزت نفسها كشريك أساسي مقرّر في الملف السوري، يلجأ إليه الأطراف للحلّ والربط، كما عملت على منع التصعيد مع العدو الإسرائيلي على الحدود مع الجولان، عبر منحه تطمينات وضمانات.
اليوم، ومع مرور قرابة عام على استعادة الجنوب السوري، يبدو المشهد أكثر تعقيداً. لكن الواضح والثابت أن الهدوء التام هو ما يجهد عناصر الشرطة العسكرية الروسية في تحقيقه على طول الحدود مع الجولان المحتل. هم، بحسب مصادر محليين، يسيّرون الدوريات على طول الشريط الحدودي، ويقومون بمهام مشابهة ومرادفة لمهام القوات الدولية (UNDOF) المعنية بمراقبة تطبيق اتفاقية فضّ الاشتباك (1974). مصدر محلي موجود في القرى الحدودية في محافظة القنيطرة لا يستبعد قيام «القوات الروسية المنتشرة بنقل المعلومات إلى العدو الإسرائيلي (...)»، مضيفاً أن «أغلب ما يقومون به يدعو إلى الريبة، وهم لا يتحرّكون إلا استجابة لاحتجاجات الإسرائيليين، إن رأى الأخيرون ما لا يعجبهم على الحدود». وتذكر التقارير الدورية التي ترفعها القوات الدولية المنتشرة على الحدود إلى مجلس الأمن، أن القوات الإسرائيلية قامت بعدة عمليات خطف لمدنيين سوريين كانوا يقومون برعي المواشي في المنطقة الفاصلة، وهو ما يعدّ انتهاكاً لاتفاقية فضّ الاشتباك. عمليات تدلّل، إلى جانب معطيات أخرى، على عمق مخاوف العدو الإسرائيلي من تشكّل «جبهة مقاومة» جديدة ضده هناك، كونه يعتقد أن حزب الله يقوم بتجنيد الرعاة والمدنيين لجمع المعلومات. وهذا ما يذكره قائد فرقة الجولان في جيش العدو، العميد عميت فيشر، في مقابلة قبل أيام مع صحيفة «إسرائيل اليوم» العبرية، حيث يقول إنه «يوجد حالياً عناصر من حزب الله على مرتفعات الجولان (...) العشرات من اللبنانيين ومئات السوريين»، وهم ـــ بحسب فيشر ـــ «يقومون بجمع المعلومات الاستخبارية كمرحلة أولى (...) وفي المرحلة الثانية، سيحاولون بناء القدرات العملياتية».



«لا أمن ولا أمان»!
لا يكاد يمرّ يوم على قرى المنطقة الجنوبية ومدنها من دون أن يشهد الناس هناك عملية اغتيال أو اختطاف أو اشتباكات على حواجز وأمام المراكز الأمنية. «لم يعد الأمن ولا الأمان»، يعلّق أحد سكّان مدينة درعا الذين تأملوا خيراً باستعادة السيطرة على الجنوب السوري، و«عودة سلطة الدولة». يضيف ابن المدينة التي شهدت أعنف المعارك طوال سنوات الحرب: «المسلحون حلقوا لحاهم وبدّلوا ثيابهم، منهم من ترك السلاح وعاد إلى بيته، ومنهم من ارتدى زي الجيش السوري والتحق بالفيلق الخامس، وأصبح يخدم على حاجز تحت علم الدولة السورية (...) نعم، لم يعد هناك خطر قصف ولا معارك كبيرة، إلا أنه في مناطق التسويات، ما زال المسلحون هم من يتحكّمون في الناس ويتسلّطون عليهم، ولكنهم اليوم يمتلكون صفة شرعية!».
في الفترة الأخيرة، تزايد التوتر الأمني في المنطقة الجنوبية. اغتيالات شبه يومية تستهدف، في أغلبها، قادة سابقين للفصائل المسلحة كانوا قد انخرطوا في التسويات مع الجانب الروسي، وهو ما يدلّ على أعمال انتقامية، قد يكون بعض المجموعات التي لم تقبل بالتسوية إلا مرغمة، وراءها. وفي السياق ذاته، يتعرض العسكريون في الجيش السوري، وبعض ضباط الشعب الأمنية التابعة لدمشق، لاستهداف دائم، سواء على الحواجز أو في الثكنات والمراكز. منذ عشرة أيام تقريباً على سبيل المثال، دارت اشتباكات عنيفة في مدينة الصنمين بين مسلحين وعناصر الجيش السوري، قام المسلحون خلالها بضرب حاجز قيطة، وحاجز السوق، والأمن الجنائي. وبداية الشهر الفائت، تعرّضت مجموعة من عناصر الأمن العسكري السوري لكمين على الطريق الواصل بين بلدة المزيريب ومساكن جلين، حيث قام مجهولون بإطلاق النار بكثافة على السيارة التي تقلّ تلك المجموعة المؤلفة من خمسة عناصر، قضوا بين قتيل وجريح. وعلى الرغم من أن الدولة السورية أوفت بالتزاماتها في ما يخص التسويات وبنودها، إلا أن الأمور لا تجري كما كان متوقعاً؛ إذ لا تنعم المنطقة بالهدوء والأمن اللازمين. وللمفارقة، فإن الوحيدين الذين لا يتعرّضون لمشاكل أمنية، ولا لأي نوع من الاعتداءات، ويتنقّلون بحرية كاملة، هم عناصر الشرطة العسكرية الروسية.