لا تقتصر شهرة حلب التاريخية على كونها «مدينة ثريّة»، بل ينسحب الأمر على نمط حياة باذخ. ويتجاوز «المطبخ الحلبي» كونه مسألة تختص بالطعام فحسب، ليعكس بعداً ثقافيّاً حصّلته المدينة من علاقاتها التجاريّة الاستثنائية تاريخياً، علاوة على كونه مرآة تعكس سلوكاً اقتصادياً مترفاً. وعادة ما يتفاخر الحلبيون بأنهم لا يحبون جمع المال فحسب، بل يحبّون صرفه أيضاً إلى حدّ التبذير. ولا يبدو مستغرباً إدراج «المطبخ الحلبي» ببعديه الثقافي والاقتصادي على لائحة «خسائر الحرب».«من ست سنين ما طبخت سمّاقيّة على أصولها»، تقول أم إبراهيم، وتردف: «الله يرحم أيام الخير». تنتمي السيدة الستينية الحلبية إلى طبقة شعبية فقيرة، ولم يكن ذلك يشكل حائلاً بينها وبين التفنّن في صنع أطايب الطعام الفاخر، الذي يتميّز ــ علاوة على نكهاته الاستثنائيّة ــ بغنى مكوناته، إلى حدّ البذخ. تتكوّن «السمّاقيّة» من باذنجان مطبوخ بحامض السمّاق، مع كميات وافرة من لحم الضأن (قطع كبيرة مع عظامها للحفاظ على النكهة)، وعادة ما تُطبخ مع أحد أصناف الكبة التي تصنع من مزيج البرغل والهبرة، وتُحشى باللحم الناعم. تتذكر أم إبراهيم قائلةً: «إذا ما كان عنّا عزيمة، كنّا نحط بالطبخة 5 كيلو لحمة، غير لحمة وهبرة الكبة، وكانت الطبخة تكفينا يومين أو تلاتة». اليوم، تستهلك أسرة أم إبراهيم كمية اللحم المذكورة على امتداد «شهر، ويمكن أكتر»، برغم أن عدد أفراد الأسرة قد انخفض من ستة إلى أربعة. تنطبق تحولات مطبخ أم إبراهيم على النسبة العظمى من الأسر الحلبية، من جميع الطبقات الاقتصاديّة، في حالة لا تبدو عابرة، بل أقرب إلى ظاهرة تكرّس تغيراً في النمط الغذائي في أحد أعرق مطابخ الشرق.

«زمن التنازلات»!
يحكي أبو نديم عن إحساس «الخزي» الذي لازمه أوّل مرة اشترى فيها كيلوغراماً واحداً من اللّحم. «طلبت توزيع الكمية على ثلاثة أكياس، كلّ منها معدّ لطبخة واحدة. سابقاً كنت أشتري عشرة أضعاف هذه الكمية، فمن المعيب أن تخلو الثلاجة من بعض اللحم على سبيل الاحتياط، كذلك فإنّ الطبخة المتواضعة كانت تحتاج كيلوغراماً على الأقل». أما فراس، فلم يكن ليعلم أن الناس يشترون كميات صغيرة من اللحم لو لم يسكن خارج حلب. «عام 2008 سكنت بمحافظة تانية، وتفاجأت إنو الناس بتشتري اللحمة بالأوقية (200 غرام)». وتزايدت في السنوات الأخيرة «التنازلات» التي اعتادها الحلبيون في سلوكهم الغذائي، مع أن بعضها عبارة عن سلوكيات مألوفة في محافظات سوريّة أخرى. «صرنا نحط بطاطا مسلوقة للكبّة بدل الهبرة»، تقول أم أحمد، وتؤكد أن إعداد «الكبب» منزليّاً لم يعد أمراً روتينياً كما كان في «أيام الخير»، بفعل أسباب عدّة، من بينها التكلفة الباهظة، وعدم توافر التيار الكهربائي، والحرص على عدم استهلاك الغاز المنزلي. ويشتهر المطبخ الحلبي باحتوائه على عدد هائل من أصناف الكبّة (يقول البعض إنه 90 صنفاً، فيما وثّق خير الدين الأسدي 56 صنفاً في «موسوعة حلب المقارنة»).

الفروج «يبتلع الجو»
لم يكن اللحم الأبيض يحظى بحضور كبير في مكوّنات المطبخ الحلبي المولع بلحم الغنم. اليوم، تبدّل الحال، وصار لحم الدجاج أساسيّاً لإعداد أطباق كثيرة. وانتشر في السنوات الماضية نوع من اللحوم سُمّي «كباب ديك»، ويزعم الباعة أنه لحم ديك رومي. والواقع أن مادته الخام هي «الدجاج البيّاض» المتقدّم في العمر، يُذبَح، ويُطحن لحمه القاسي والمائل إلى الحمرة، مخلوطاً بكميات من «شحم الغنم» لمنحه نكهة يألفها المستهلك. يُباع هذا اللحم بسعر أرخص من لحوم الأغنام، لكنه أعلى من سعر الدجاج! ودأب باعة الدجاج في السنوات الأخيرة على استغلال كلّ أجزائه، بما في ذلك أجزاء كانت تُرمى عادة، أو تباع طعاماً للكلاب أو القطط. يقول أبو نديم: «كنت عند بياع الفروج، وكان عم يشفّي صدور (يفصل اللحم عن العظم). سألته: العظم إشو عبتعمل فيه؟ بيعني ياه للكلب. قلت لحالي بيعطيني ياه ببلاش أو بسعر رخيص كتير».
نبشت ربّات الأسر طبقاً قديماً اسمه «مقلّى خبز»

فوجئ الرجل بالرد: «يا أستاذ الناس عم يشتروهن وما عم لحق منهن، بياخدو العضم بيسلقوه وبيعملو منو شوربة». من بين الأجزاء التي كانت تُرمى غالباً رأس الفرّوج ورقبته، لكن الباعة في السنوات الأخيرة صاروا يكشطون الجلد وبقية الطبقات الرقيقة التي تستر عظم الرقبة، ويخفقونها باستخدام الخلّاط الكهربائي، ليشتريه المستهلكون الذين يقومون بتكويره وغمسه بالبيض والطحين، وبعض التوابل، ثم قليه. وبات كثير من المطاعم (بما فيها الفاخرة) يعتمد هذا المزيج لصنع بعض الوجبات، مثل «الكريسبي» أو «النّاغيت».

التقشّف سيد الموقف
فرض التقشف نفسه على موائد الحلبيين، فغابت عن كثير منها الأطباق المكلفة (مثل الفريكة، السفرجليّة، الكوَيسات، المعجوقة، الأَرمان). فيما عادت أطعمة أخرى إلى التداول بعد أن كادت تنقرض، مثل طبق «رشتاية بعدس». وانتشر هذا الطبق بكثرة، لأن مكوِّنَيه الأساسيين (معكرونة وعدس) كانا حاضرين على قوائم «المعونات الغذائيّة». كذلك، نبشت ربّات الأسر طبقاً قديماً اسمه «مقلّى خبز»، وهو عبارة عن تجميع بقايا الخبز، ودعكها بعد ترطيبها، ثم تحويلها إلى كرات وقليها، وقد يضفن إليها بعض المنكهات (كالزعتر الأخضر). سابقاً، كانت الجدات يحرصنَ على صنع هذه الوجبة لأنّ «رمي الخبز حرام»، أما اليوم، فالسبب توفيري. كذلك أُعيد إلى التداول طبق «يهودي مسافر»، المكوّن من البرغل وبقايا الكوسا، أو الباذنجان المطبوخين، للحصول على طبق جديد. وطبق «المغمومة» المكوّن من البرغل والسبانخ. وبطبيعة الحال باتت «طبخات الزيت» (مثل المجدرة، برغل ببندورة، وسواهما) أكثر حضوراً على الموائد، مع تغيير مهم، هو استبدال زيت دوار الشمس بزيت الزيتون (الذي بات ثمنه باهظاً)، أو خلطهما معاً. ويسري الأمر على «المكدوس». وكانت لحلب حكاية «غرام» تاريخية مع زيت الزيتون، الذي اعتاد السكان (فقراؤهم وأغنياؤهم) تخزينه بكميات كبيرة، أما اليوم فيكتفي «القادرون» بشراء كميات قليلة منه.

يبرق «fast food»!
يقول المثل الحلبي «اليبرق بدو نهار، ما بدو نار»، كنايةً عن أن ورق العنب يجب أن يطبخ على نار شديدة الهدوء لمدة 24 ساعة! وانخفضت نسبة النساء الحريصات على تطبيق هذه القاعدة إلى حد الندرة، بسبب مخاوف التفريط بالغاز المنزلي. وتقول أم نادر إنها طبخت اليبرق مرتين فقط في السنوات الأربع الأخيرة، وكانت تنجزه كل مرة في أسرع وقت ممكن. «يا خيو والله ما بيطلع طيب، بس العين بصيرة والإيد قصيرة». أما أم محمد، فتقول متفاخرة: «والله غير ع الأصول ما بطبخو، أمس لسة تركتو نهار ونص ع الصوبّة».

فول سوداني VS فستق حلبي
انخفض استهلاك الفستق الحلبي (المنسوب تاريخياً إلى المدينة) بصورة غير مألوفة، ليحلّ محلّه الفول السوداني! وبدأت ملامح هذه الظاهرة قبل انهيار المنظومة الاقتصادية الحلبية، بسبب خروج إدلب وأرياف حلب عن السيطرة الحكومية (ما جعل وصول الفستق إلى المدينة مهمة شاقة)، قبل أن تستشري لاحقاً لأسباب اقتصادية بحتة على وقع الغلاء. وبات مألوفاً استخدام الفول السوداني في صنع أشهر أصناف الحلويات الحلبيّة (مثل المبرومة بفستق). ودأب البعض على طحن الفول السوداني، وتلوينه بأصبغة خضراء اللون على سبيل الغش. وفي أحد مظاهر الغش الطريفة، سُجّل طحن بعض الباعة للبازلاء، ورشّها فوق «المأمونيّة» (طبق حلبي شهير يُصنع من السميد والسكر والسمن)، على أنّها مسحوق الفستق الحلبي! واعتاد البعض تحويل أرزّ المعونات إلى «قشطة»، بعد طبخه مع السكّر والنشاء، واستخدامه حشوةً للقطايف وحلاوة الجبن!