عادت قضية المخطوفين والمفقودين السوريين إلى الواجهة أخيراً، عبر حملة «إلكترونية» قام بها ناشطون وجّهوا اتهاماً مباشراً إلى الحكومة التركية المتورطة في هذا الملف. وإذ تهدف الحملة إلى تحشيد ضغط شعبي للكشف عن مصير المخطوفين، والإفراج الفوري عنهم، فهي اعتمدت على تخصيص 20 كانون الأول ليكون «يوم المخطوف السوري»، للتذكير بالقضية المنسية في المحافل الرسمية والدولية. الحراك الافتراضي عرّى المشهد الإنساني والاجتماعي الذي فرضته الحرب. لا تعرف عائلات هؤلاء من أين تبدأ رحلة البحث عن أبنائها، وسط حالة من العجز والقهر. وتواجه معظم الأوساط المعارضة عجز هؤلاء، بتجاهل ملف أبنائهم وتسييسه، بما يربط ملفهم بـ«عدالة قضية المعتقلين السياسيين فقط». ولا شكّ في أنه ليس لدى عائلات المخطوفين ما يقولونه بشأن قضية المعتقلين، ما داموا ليسوا هم من قام بفعل الاعتقال، ولكونهم غير مسؤولين عمّا تقوم به السلطات. وسط هذا التشرذم الإنساني الذي يشوب المشهد، انبرى مطلقو الحملة إلى تنظيم مساعيهم القانونية والإنسانية والإعلامية لإنشاء لجنة للمخطوفين السوريين، تسعى إلى التواصل مع المنظمات الدولية و«هيئة المصالحة السورية»، للوقوف على المزيد من البيانات والقوائم، للبدء بالحراك القانوني اللازم. استنهاض جهود منظمة الصليب الأحمر الدولي وبياناتها، إضافة إلى الحصول على قوائم وإحصائيات من «هيئة المصالحة السورية» لا تكفيه جهود متواضعة، بل يتطلب العمل طيلة الأشهر المقبلة للوصول إلى صيغة قانونية للتحرك. وعلى اعتبار الضغط الشعبي لم يكن كافياً في السابق، لتحقيق أي تطور في ملف المخطوفين، إذ لا تنظيم لنشاط حقيقي يفرض ثقلاً ما على مسرح المفاوضات الحالية أو السابقة، فإن ضخامة أعداد المغيّبين ومعاناة معظم الأسر السورية وجع الفقد تمثلان حلماً بتغيير في المحافل الدولية، أقلّه على المستوى السوري الرسمي.
تركز الحملة على اتهام الحكومة التركية وتحميلها مسؤولية ملف المختطفين

نفَس طويل يلزم الحملة التي أُطلقت أخيراً، إذ إن الحاجة ملحّة إلى تنظيم محامين مقيمين في أوروبا بين صفوفها، بهدف رفع دعوى قضائية على الحكومة التركية. وإن كانت السياسة تقتضي أن تقابل قضية المخطوفين ملف المعتقلين السياسيين لدى سجون السلطات السورية، فإن هذا ما قد يشوّش على الحملة الحالية لدى شريحة من السوريين، بما يفرض نصف تعاطف، ونصف عدالة، ونصف أمل. مكسيم منصور، أحد ناشطي الحملة ومؤسسيها، عرّف عنها بأنها «حركة مجتمع مدني» لا تشعّب اتهاماتها نحو حكومات وأنظمة، سوى النظام التركي. ويدلل منصور على تورط الطرف التركي في الملف الإنساني المطروح بإطلاق الأتراك سراح مخطوفين عديدين في مفاوضات مستمرة، عبر الحدود التركية. ويشير الشاب الذي خُطف شقيقه ليلة سقوط مسشفى الكندي في حلب، قبل 5 سنوات، إلى عدة فصائل من المسلحين المتورطين في عمليات الخطف ثبت تعاونها المباشر مع الطرف التركي، الذي يملك قوات ونقاط مراقبة في مناطق سيطرة هذه الفصائل. ويفصل منصور بين قضيتي المخطوفين والمعتقلين في سجون السلطات السورية، باعتبار الاعتقال السياسي يمكن إثارته في القضاء للمطالبة بمحاكمات عادلة وعلنية داخل مؤسسات دولة واحدة، أما المخطوفون فالإفراج الفوري عنهم هو المطلب الوحيد.
ومع إطلاق الحملة صرخة غنائية شعبية تمثّل استنجاد المخطوف السوري بأهله للمطالبة بالإفراج عنه، وذلك بصوت مغنين سوريين متعاطفين مع القضية، ظهر تباين جديد في المواقف؛ فنانون عديدون، أسوةً بالمواطنين العاديين، حاولوا التملص من المشاركة في الحملة، متذرعين بالابتعاد عن الاصطفاف السياسي الذي حفر شروخاً متواصلة على الصعيدين الاجتماعي والفني طيلة سنوات الحرب. وطرح التحزب السياسي الفج تساؤلات عن سر فقد إحساس المتألم بمتألمين مثله، جراء قضايا إنسانية مشابهة. الفجوة الإنسانية الحاصلة اقتضت تجاهل آلام الآخر إن لم يجمعنا معه الخندق ذاته. وفي يوم أراده جزء من الشعب للمخطوف السوري، لا يعتبر الوقوف بشجاعة للمطالبة أو الموافقة على فرض الإنسانية بنداً في أي مفاوضات مقبلة طعناً في الاصطفاف السياسي، ولا نكراناً لحق المعتقلين بمحاكمات عادلة. وهو ليس متعلقاً، بأيّ حال، بالوقوف في صف المعارضة أو الموالاة، بقدر ما هو نقطة بدء جديدة إنصافاً لإنسانية مشتركة جمعت رفاق مقاعد الدراسة يوماً، وإحقاقاً لمبادئ ضمير وذكريات وعِشرة لا تفهم لغتها الأنظمة والحكومات. لعلّها لغة الشعوب التي فرّقتها السياسة وجمعتها خسائر الحرب ونيران الفراق وصرخات الأمهات المتألمات.