لم تؤسّس «جبهة النصرة» لتكونَ فرعاً لتنظيم «القاعدة» في سوريا. ورغم الارتباط «الفكري» بين التنظيمين المتطرّفين، فمن الواجب التذكير بأنّ «النصرة» إنّما تأسّست لتكون «الجناح السوري» لتنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق». صحيح أن الأخير كان يجاهر بـ«بيعة» للتنظيم الأم «القاعدة»، لكنّ الارتباط بينهما لم يكن يعدو كونه ارتباطاً شكلياً أشبه بـ«زواج المصلحة». جاءت العلاقة بين تنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق» وتنظيم «القاعدة» امتداداً لعلاقة مماثلة جمعت الأخير بجماعة «التوحيد والجهاد» التي أسّسها الزعيم «الجهادي» الأشدّ دمويّة، والأب الروحي لـ«داعش» و«النصرة»، أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فاضل نزّال الخلايلة 1966 – 2006).
«البذرة الزرقاويّة»
ثمّة روايات متعدّدة حول «بذرة جبهة النصرة»، لكنّها تتقاطع عند قاسم مشترك جوهري، مفادُه أنّ «الجبهة» تأسّست بدعم وإشراف مباشرَين من زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي. تتنازع الواجهة حول ولادة «النصرة» روايتان؛ تقول الأولى إنّ «مجلس شورى» البغدادي هو الذي طرح فكرة «تشكيل جماعة جهاديّة مرتبطة بالتنظيم في سوريا»، فيما تذهب الثانية إلى أن أبو محمد الجولاني هو صاحب الفكرة، وأنّه أرسل إلى البغدادي مشروعاً مكتوباً يتناول أدقّ التفاصيل، وقد أُعجب البغدادي بالمشروع وقرّر تبنّيه. تُجمع الروايتان إذاً على أنّ الداعم الأساسي لمشروع «النصرة» هو أبو بكر البغدادي، لكنّ الرواية الثانية تُحيل جذور المشروع إلى تاريخ أقدم من ذلك، فتربطه بأبو مصعب الزرقاوي شخصيّاً. ويؤكد أصحاب هذه الرواية أنّ تأسيس «فرع في الشام» كان حاضراً في ذهن الزرقاوي، وأنّه قد باشر ذلك بالفعل حين أنشأ شبكة في سوريا «لدعم الجهاديين في العراق»، مستفيداً من «غضّ النظر» الذي انتهجته دمشق في تلك الفترة، قبل أن تتغيّر الظروف بدءاً من عام 2007 (بعد مقتل الزرقاوي بسنة) وتشنّ الأجهزة السورية حملة اعتقالات واسعة طاولت «الزرقاويين». في الوقت نفسه، تشير بعض المصادر «الجهاديّة» إلى أنّ «المشروع الذي قدّمه الجولاني إلى البغدادي استند إلى ورقة أعدّها في الأصل أبو مصعب السوري (مصطفى ست مريم نصّار، 1958 - ؟)». ويؤكد مصدر «جهادي» لـ«الأخبار» أنّ «الجولاني حصل على الورقة التي أعدّها أبو مصعب السوري بواسطة خال الجولاني، أبو بلال السيد عيسى». ينحدر الأخير من إدلب، وكان واحداً من مقاتلي «الطليعة المقاتلة» في سوريا، قبل أن يصل إلى أفغانستان ويلتقي هناك بالسوري ويصبحا صديقين، وفقاً للمصدر نفسه.
نواة تشكيل «النصرة» قامت أساساً على أكتاف «الزرقاويين»

أما ابنه بلال السيد عيسى (ابن خال الجولاني) فقد قادته الأهواء «الجهاديّة» إلى العراق، جنباً إلى جنب مع الجولاني، قبل أن يُقتل بلال ويُعتقل الجولاني. وسواء صحّت هذه الرواية أو لا، فالثابت أنّ الجولاني قد أقام أوّل قدومه من العراق إلى سوريا (عام 2011) في بيت خاله في إدلب، واستفاد من علاقاته بـ«الخلايا النائمة» التي كانت تعمل في شبكة الزرقاوي في سوريا لتوسيع نطاق عمل «جبهة النصرة». أمّا النواة الأساسيّة لتشكيل «النصرة» فقد قامت أساساً على أكتاف «الزرقاويين» الذين أوفدهم البغدادي تحت إمرة الجولاني إلى سوريا، ومن بينهم العراقي أبو ماريّا القحطاني (ميسرة الجبوري)، والسوريان جهاد الشيخ (أبو أحمد زكّور) وحمزة سندة (عبد الله حلب). ولا يزال الثلاثة المذكورون حاضرين في المشهد السوري، وقد طُرح اسم الأخيرين لإنشاء تنظيم جديد يرث «النصرة» («الأخبار»، 13 أيلول 2018). أكثر من ذلك، فقد عملت «النصرة» لفترة تحت إشراف أبو علي الأنباري (الرجل الثاني في «داعش»)، وكان أبو محمد العدناني والياً لـ«النصرة» على «المنطقة الشماليّة» التي تضم حماة وحلب وإدلب، في مطلع عام 2012. وليست هذه التفاصيل سريّة، لكنّ تطورات المشهد «الجهادي» في سوريا أدّت إلى نسيانها (أو تناسيها) عقب الشقاق الكبير بين الجولاني وزعيمه البغدادي.

«الخلافة» في صلب مشروع الجولاني
بين تشرين الأول 2011 وكانون الثاني ،2012 عقد الجولاني عشرات الاجتماعات مع «الكوادر الجهاديّين» المؤسّسين، وتمّ إقرار ما يشبه «ميثاقاً جهاديّاً» احتوى المبادئ الأساسيّة لـ«النصرة». حدّد «الميثاق» المذكور خمسة أهداف (هي خلاصة مشروع الجولاني وزعيمه البغدادي) مرتّبة بطريقة «هرميّة»، بحيث يُفضي تحقيق الأوّل إلى البدء بتنفيذ الثاني. أما الأهداف فهي: 1ــ إنشاء مجموعة تضم العديد من «الجهاديين» الحاليين (وقتَذاك)، وربطهم معاً في كيان واحد. 2ــ تعزيز وتقوية الوعي بالطابع الإسلامي للصراع. 3ــ بناء القدرات العسكرية للمجموعة، واغتنام الفرص لجمع الأسلحة وتدريب المجندين، وخلق ملاذات آمنة من خلال السيطرة على مقارّ ومناطق. 4ــ إنشاء «دولة إسلامية» في سوريا. 5ــ إقامة «الخلافة» في بلاد الشام والعراق.

... و«مقاتلة الفصائل» أيضاً
حتى الاقتتال الذي كرّت سُبحته بين المجموعات المسلحة في سوريا عقب «الشقاق الكبير» بين «النصرة» و«داعش»، لم يكن مفاجئاً للجولاني، إذ نصّ المشروع الأساسي لإنشاء «الجبهة» على قدوم مرحلةٍ «لا بدّ منها» تستوجب مقاتلة المجموعات الأخرى (غير المرتبطة بالمشروع «الجهادي» مباشرة). لكنّ الجولاني كان يفترض أنّه سيدخل هذه المرحلة وتحت رايته «كل الجهاديين في الشام والعراق»، وأنّ هذه «المرحلة الجديدة من الصراع ستبدأ بمجرد سقوط نظام الأسد». كانت «الاستراتيجيّة» المعدّة لهذه المرحلة تقوم على شقّين أساسيين: حشد جميع «القوى الجهادية في الشام تحت مظلة واحدة»، و«زيادة تدفّق المجاهدين من العراق إلى سوريا» تمهيداً لـ«كسر الحدود». لكنّ تفصيلين جوهريين لعبا دوراً في تغيّر كثير من المجريات خلافاً لطموحات الجولاني، أوّلهما وأشدّهما تأثيراً على المدى البعيد أنّ «سقوط النظام» ظلّ حبراً على ورق، أما الثاني (الأشد تأثيراً على المدى القريب) فكان الشقاق الذي وقع بين الفرع («النصرة») والأصل («داعش»)، والذي قاد لاحقاً إلى استعار «الحرب الأهليّة الجهاديّة». ومن المفيد التذكير بأنّ الخلاف بين الطرفين لم ينفجر لأسباب «أيديولوجيّة»، بل لأسباب تتعلّق بالنفوذ والأموال (ولا سيّما عقب السيطرة على حقول النفط)، إضافة إلى دخول أسباب «شخصيّة» على الخط (تتعلّق بخلافات بين العدناني والجولاني من جهة، وبين العدناني والقحطاني من جهة أخرى) ما أسهم في تعجيل الانفجارالاحتماء بـ«القاعدة»
وقع الشقاق الكبير بين البغدادي وموفده إلى سوريا الجولاني. وجد الأخير نفسه أمام خيارين، أوّلهما التسليم بمشيئة أميره والامتثال لأوامره القاضية بإلغاء «النصرة» واندماجها مع «داعش»، ما يعني انهيار أحلامه وطموحاته الشخصيّة وفشل المشروع (الذي اشتغلت جهات إقليميّة على دعمه وتقويته ووعدت الجولاني بتحقيق أهداف «الجبهة» الخمسة)، أما الخيار الثاني فمواجهة البغدادي، وهو أمرٌ كان يفوق قدرات «النصرة» التي خسرت أكثر من نصف مقاتليها حين امتثلوا لرغبة البغدادي وشقّوا عصا الطاعة للجولاني. عند هذه النقطة بالذات قرّر الجولاني الاحتماء بتنظيم «القاعدة» والظهور في مظهر الحريص على «بيعة في عنقه للظواهري». كان الجولاني يهدف من وراء ذلك إلى الحفاظ على «شرعيّة جهاديّة» تتيح له ترميم «النصرة» بـ«جهاديين» من مختلف الجنسيّات، والاحتفاظ بنظرائهم الذين لم ينشقّوا، علاوةً على إيجاد مصدر دعم مالي يستند إليه في المرحلة الجديدة، وهو ما حصل بالفعل.



قيادي «النصرة» الغامض
ظلّ اسم أبو قتادة الألباني بعيداً عن الضوء رغم أهميّته الاستثنائيّة. لا معلومات متوافرة عن الهوية الحقيقيّة للرجل الغامض، لكنّ المؤكّد أنّ عدداً من أجهزة المخابرات العالميّة تعدّه في أهميّة أبو مصعب الزرقاوي. لعب الألباني غيرَ مرّة أدواراً محوريّة في تثبيت نفوذ الجولاني. وتقول معلومات متداولة على نطاق ضيّق إنّه «كان واحداً من ستّة أسّسوا جبهة النصرة». وعقب الشقاق بين «النصرة» و«داعش»، أسهم الألباني في إعادة بناء القدرات العسكريّة لـ«النصرة». وفي ظهور علني نادر حضر إلى جانب الجولاني في تموز 2014، حين بشّر الأخير حشداً من «جهادييه» بـ«قرب إنشاء إمارة الشام الإسلاميّة»، وبأنّ الألباني سيتولّى «قيادة جيش الإمارة». يحرص أبو قتادة على إحاطة نفسه بالغموض، ولا يحتك سوى بالمقاتلين التابعين له، وعُرف عنه في العامين الأخيرين أنه يرفض المشاركة في اجتماعات تضم أكثر من خمسة أشخاص. يحظى الرجل الغامض بثقة الجولاني حتى الآن. كان الألباني مشرفاً عسكرياً عاماً لـ«النصرة» في قطاعي حلب وإدلب، ومسؤولاً مباشراً عن معسكرات تدريبها في خانطومان. من مزاياه احتفاظه حتى اليوم بقبول لدى معظم القيادات «الجهادية» بمختلف انتماءاتها. كان واحداً من أعضاء لجنة تولّت حل الخلاف بين «النصرة» و«القاعدة» في كانون الأول 2017، وأفلحت في الوصول إلى اتفاق قضى بإطلاق سراح معتقلي «القاعدة» لدى «النصرة» (وهم الذين شكلوا لاحقاً تنظيم «حرّاس الدين»).