«شجرة» الزعم أن طائرة «السوخوي» السورية أسقطت لأنها اخترقت أجواء الجولان المحتل بكيلومترين، لا ينبغي أن تحجب عن الأعين «غابة» الفشل الإسرائيلي في تأمين الحدود الشمالية من دون اللجوء إلى روسيا، حتى ولو واكب ذلك استعراض سياسي، بتوقيت العملية مع زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى إسرائيل، وفشل المفاوضات حول قواعد الاشتباك الجديدة التي تعمل روسيا على رسمها في الجنوب السوري، والمنطقة، بعد عودة الجيش السوري إلى خطوط اتفاق أيار 1974.فالضيق ينتاب الإسرائيليين لتقلّص دائرة خياراتهم الأمنية والدفاعية والسياسية في سوريا بسرعة كبيرة، واضطرارهم إلى اللجوء إلى الروس وحدهم، لتسامحهم مع ضرباتهم الجوية للحرس الثوري الإيراني في سوريا، وتعاطيهم بمرونة كبيرة مع المطلب الإسرائيلي بانتزاع منطقة فصل اشتباك مع الانتشار الإيراني في سوريا. الضيق ينتاب الإسرائيليين خصوصاً، لأن «مقلاع داوود» درة الدفاع الصاروخي خذل الآمال التي بنتها الأركان والصناعات العسكرية الإسرائيلية لسد ثغرات القبة الحديدية.
ويستكمل «مقلاع داوود» باستهدافه الصواريخ المتوسطة المدى ما بين 40 إلى 300 كيلومتر، منظومة دفاع صاروخي من ثلاث طبقات، تتصدى فيها «باتريوت» للصواريخ قصيرة المدى، فيما تعمل شبكة «حيتس» على وقف الصواريخ بعيدة المدى. ولكن الخذلان جاء قبل يومين، عندما لامس زوج من صواريخ «أس أس 21» (توشكا) السورية، ترددات «مقلاع داوود» في الجنوب السوري، من دون أن يخترقا خطوط الفصل في الجولان المحتل، ضلّت المنظومة الأكثر تقدماً طريقها نحو التهديد، وتحطم صاروخان من المقلاع الواعد قبل بلوغهما التهديد، وقد تبيّن في النهاية أنه كان وهمياً.
اختبار «مقلاع داوود»، أنزل إسرائيل إلى أرض الواقع الاستراتيجي الجديد. فخلال الأسابيع الماضية تراكمت مستجدات كثيرة في العلاقات الروسية - الأميركية، جعلت من الخيار الروسي «شراً» لا بد منه إسرائيلياً. ففي هلسنكي تبلور تفاهم واضح بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب. ولا ينبغي التساؤل كثيراً عما جال في أذهان الإسرائيليين وهم يشهدون رئيساً أميركياً، يثني، ويوافق على كل ما يقوله نظيره وخصمه الروسي المفترض، خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعهما بعد اجتماع هلسنكي، في كل ما يتصل بالملف السوري، وأمن إسرائيل. فالاستنتاجات التي تفرض نفسها على الجميع، هي أنه لا مناص من روسيا، خصوصاً أن الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الأول، تبنّت هي نفسها الخيار الروسي في سوريا، كما تبنت القراءة الروسية لأمن إسرائيل وشروطه في سوريا. والأسوأ، أنه لا توجد أي مؤشرات على انقلاب الاتجاهات التقاربية بين الكبيرين في الأسابيع وربما في الأشهر المقبلة. على العكس من ذلك يواصل ترامب في خوض المواجهة الجارية داخل الإدارة الأميركية مع الدولة العميقة حول خياراته الروسية، وما ينتظر إسرائيل في لقاء واشنطن المنتظر بين بوتين وترامب، إذا ما وقع، هو المزيد من التقارب بين الرئيسين في ملفات كثيرة، من بينها طبعاً الملف السوري، وتثبيت تفاهمات «هلسنكي» حولها.
لا تستطيع روسيا الذهاب بعيداً في تقديم تنازلات في الجنوب السوري


وبلورت ميادين القتال خلال الأسابيع الماضية، صورة أوضح عن خيارات إسرائيل التي لم تعد قادرة على شن حرب تحتوي «الخطر الإيراني» مع اقتراب الجيش السوري من خط الفصل في الجولان، وعجز استراتيجية «عمليات ما دون الحرب» عن تدمير البنى التحتية الأساسية التي أنشأها محور المقاومة، تحت النار خلال الحرب السورية، على رغم عشرات الغارات التي تعرضت لها هذه المنشآت خلال خمسة أعوام على الأقل. لم يعد مطلب احتواء إيران في سوريا كافياً لتأمين إسرائيل. وليس مفاجئاً أن يعود وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بتمرد إسرائيلي على عرضه، إبعاد قوات حزب الله وإيران، مئة كيلومتر عن خط الفصل في الجولان، لأنه لا يستجيب فعلياً لحاجات إسرائيل الأمنية التي لا يمكن تلبيتها من وجهة نظر إسرائيل من دون تدمير القوة الصاروخية للعدو. والأنكى أن إسرائيل تدرك أنها لا تملك ما يكفي من القوة للحصول على عرض أفضل أو فرض مطالبها وتغيير قواعد الاشتباك في الجولان.
إن روسيا لا تستطيع الذهاب بعيداً في تقديم تنازلات في الجنوب السوري، وتعتبر، كما قال بوتين في هلسنكي، أن أمن إسرائيل يتحقق بعودة الجيش السوري إلى خط الفصل، وتطبيق القرار 338 (الذي يعني تطبيق القرار 242 وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة للعام 1967). تبدو المطالبة به مستهجنة في ظل انهيار المنظومة الخليجية أمام إسرائيل، وبعيداً من ميزان الضعف العربي ومبادرات الملك عبدالله. والمؤكد أن بوتين لا يريد الذهاب إلى احتواء إيران في سوريا لأسباب تتعلق بالتوقيت، واستمرار العمليات الميدانية التي تجعل من قوات محور المقاومة ضرورة تتكامل مع السيطرة الروسية على سماء الميادين التي لا تزال مشتعلة، وتنتظرها ميادين أخرى في الشرق وفي الشمال، قبل أن تحين ساعة توزيع النفوذ في سوريا، كما يعتقد البعض. وهناك اعتبارات استراتيجية أخرى، تتصل بحاجة روسيا إلى الحليف الإيراني، مع قلة حلفائها وحاجتها الماسة إليهم، ليس في سوريا فحسب، بل على جبهات المواجهة الأوسع مع الولايات المتحدة. وفي أكثر من مقابلة، عبّر الرئيس بشار الأسد، عن رفضه لسياسة «احتواء» إيران في سوريا أو تحجيمها. يمنع ذلك الروس من الذهاب أبعد مما ينبغي في تقديم التنازلات، خصوصاً أن بقاء إيران في سوريا يبدو ضرورياً للحفاظ على هامش واسع من استقلالية القرار السوري إزاء الحلفاء، ولكي لا يجد السوريون أنفسهم في خلوة مع حليف واحد، روسي، يفرض عليهم شروطه في ازدياد الحديث عن شروط التسوية الداخلية.
إن ما يطرح مشكلة على العقل الأمني الإسرائيلي، ليس انتشار 80 ألف مقاتل من محور المقاومة، وهو إحصاء إسرائيلي، بقدر ما تطرح منصات الصواريخ التي نقلت إلى سوريا أو التي يجري تصنيعها في سوريا، من تهديدات للعمق الإسرائيلي، وانكشافه أمام شبكات الصواريخ بعيدة أو متوسطة المدى، والتي لا يغير شيئاً منها العرض الذي جاء به سيرغي لافروف، إلى تل أبيب. فخلال سنوات الحرب السورية، لم يتوقف محور المقاومة، بحسب زعم إسرائيل، عن بناء وتوسيع شبكة الصواريخ التي أسهمت في بناء معادلة الردع بين المقاومة والجيش الإسرائيلي. ومن الواضح أن الهدف من «التوسع الصاروخي في سوريا»، في حده الأدنى، كان ولا يزال محاولة مدّ هذه المعادلة إلى الجولان السوري المحتل، بحيث تشمل إلى خط الحدود اللبنانية ــ الفلسطينية، و78 كيلومتراً منها 74 كيلومتراً من خط الفصل بين الجولانين المحتل والمحرر، كي تصل في النهاية الناقورة اللبنانية، بوادي اليرموك السوري الأردني.
يبدو اللجوء إلى الخيار الروسي ضرورة لكسب الوقت في ظل العجز عن اللجوء إلى خيار الحرب الذي لم تعد تملك زمامه بعد أن تحولت في جزء كبير منها إلى حرب صاروخية. في هذا الوقت وأمام انكشاف الجبهة الداخلية، تحاول إسرائيل تصحيح المعادلة بالهروب إلى الأمام وإعادة بناء منظومتها الدفاعية الصاروخية. إذ كشفت «يديعوت أحرونوت» أن مجلس الوزراء المصغر الأمني الإسرائيلي، وافق على مشروع غير مسبوق في تاريخ الكيان الصهيوني لتطوير تسليح جيشه، وتحديث الترسانة الصاروخية بشكل أساسي، وتمويله بثلاثين مليار دولار. ولإقرار المشروع، التقى خلال الأشهر الأخيرة، مرات عدة وبسرية تامة، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزيرا المالية والدفاع، موشيه كحلون وأفيغدور ليبرمان، ورئيس هيئة الأركان غادي إيزنكوت، وأبرز المسؤولين في مجلس الأمن القومي، وعدد من قادة المؤسسات الدفاعية.
ولأن الحرب لم تعد ملك يمين إسرائيل، كما كانت في كثير من الأحيان، لا تجد إسرائيل أمامها اليوم، وغداً، سوى فلاديمير بوتين، والخيار الروسي «المر».