حمص | أن يبقى الحمصيون قادرين على الاحتشاد على باب مركز ثقافي لحضور حفل موسيقي، بعد كل ما مروا به من خراب، هو إعجاز بالوضع الحالي. فعالية ثقافية لإحدى الجمعيات الأهلية تصنع فرقاً في الأمسيات الصيفية لمدينة ذاقت المُر مراراً وتكراراً. جمهور يملأ القاعة موزّعاً على درجها وأرضيتها في انتظار النغم. «حمص التي تتألم... باتت اليوم تكرِّم»، هذا لسان حال الجمهور الذي يغلب عليه عنصر الشباب، بحضور الفنان طاهر مامللي. التعطش الكبير لاستقطاب شخصيات فنية، الذي لطالما صنع أحداثاً ثقافية عالية المستوى في العاصمة، هو أيضاً من صفات الحمصيين اليوم. فالموسيقي السوري الذي أحيا أكثر الحفلات جماهيرية مع أبرع العازفين السوريين، وشكل ظاهرة خاصة باستعراض أعماله الموسيقية التي تألقت في الدراما، يحضر في هذه الأمسية مكرَّماً. طلاب جامعيون يبحثون عن فرصة لإظهار شغفهم الموسيقي بحصولهم على كرسي لإثبات حضورهم. هم ذاتهم الذين لطالما طاردتهم الحرب وتفجيراتها وانتزعت منهم الحياة الآمنة، يطاردون اليوم الفعاليات الثقافية والفنية، مترقبين بفرح كل «قطرة فنّ» تعبر نحوهم من المبدعين الباقين في البلاد. يقول زياد، الطالب الجامعي: «لطالما حلمنا بحضور حفلات طاهر مامللي الذائعة الصيت في العاصمة. تابعت تلك الحفلات عبر يوتيوب عشرات المرات، وحلمت أيضاً بأن يحيي مثل هذه الحفلات هُنا، إنما الحرب باعدتنا عن أحلامنا الكبيرة»، في إشارة إلى اسم أحد أشهر أعمال مامللي. التأثر كان بادياً على ابن حلب الموسيقي عبر لغة جسده، ومن خلال متابعته باهتمام عزف وغناء شباب هواة في معظمهم.
لم يعِ صانع الآلات الموسيقية أن طلقة قناص ستستقر في عموده الفقري

ابتسم مع جمهور حمص، حين عزفت الفرقة الموسيقية المكونة من 32 عازفاً، موسيقى شارة المسلسل الشهير «ضيعة ضايعة». وتحولت ملامحه إلى الجدّية، عندما أدت إحدى المغنيات الشابات، والطالبة الجامعية، أغنية «أيها المارون»، التي لحنها مامللي كشارة لمسلسل «صلاح الدين». يمتلك الحمصيون الجرأة ويعرفون أن لديهم الشغف اللازم لإبهار المشاهير من زوارهم، بقدرتهم على مواجهة آثار الحرب والسير على الآلام، بما يوحي أن الشعب الذي نهض من تحت الدمار، يتداوى بالفن والموسيقى... ويشفى. ولعلّ هذا ما يأمل الحمصيون أن يحمله مامللي في جعبته عن قيامة المدينة.
والأذن تعشق... بلا عينين
من دراسة الطب تحوّلت روان يوسف (22 عاماً) إلى دراسة الأدب الفارسي قبل خمسة أعوام. وكما الفرق الواسع بين الاختصاصين، اختلفت حياة الفتاة إثر فقدان بصرها على خلفية إصابتها في أحد التفجيرات، خلال أيام حمص الدامية. تعلمت يوسف العزف على آلتها الموسيقية بعد الإصابة. تعلّق على الأمر بمرح: «لم يكن لديّ الوقت سابقاً لتعلّم الموسيقى التي أعشقها، بحسب ما يتطلبه التفوق اللازم لترتيب الأولويات الدراسية».


فيما يشرح والدها حالتها النفسية بقوله: «روان من المؤمنات. وهذا أجمل ما فيها». الصبية التي تنال معدّلها الجامعي لهذا العام بدرجة 96%، رغم فقدان بصرها، تخفف العزف على آلتها الموسيقية، وتعلّل ذلك بقولها: «مشان ما نزعج الجيران».

صانع الآلات الموسيقية... ورصاصة القنّاص
قبل 5 سنوات كان أحمد حسين المنصور متوجهاً ليفتح محله، الواقع بمحاذاة أحد خطوط التماس في أحياء حمص المنكوبة. لم يعِ صانع الآلات الموسيقية أن طلقة قناص ستستهدفه، هو المدني الباحث عن رزقه، لتستقر في عموده الفقري، مسببة له شللاً نصفياً. الرجل البالغ 39 عاماً، هو أبٌ لطفلة في المدرسة الابتدائية. إصابته وانشغال الأم بمتطلبات الحياة الصعبة الجديدة لم يشكلا عائقاً في وجه تفوق ابنته اللطيفة، التي تتحمّس لإحضار آلة العود لوالدها كي يعزف لزواره.

الزيارات الدورية لفرق المحافظة تتكفل بأجزاء من تكاليف العلاج والأدوية، فيحاول المواظبة على العلاج أملاً في تحسن ما. أما الحل الجذري لحالته، فيبدو مستحيلاً في ظل واقعه الحالي، إذ يتطلب زراعة خلايا جذعية بتكاليف باهظة. عاد الرجل أخيراً للتعايش مع حرفة صناعة الآلات الموسيقية، ليصل معدل إنتاجه إلى آلة موسيقية واحدة كل شهرين. لم تعد أعصاب يديه كما كانت قبل الإصابة، إذ تأذت بدورها، ما جعله غير راضٍ كلياً عن القطع التي تصنعها يداه المتضررتان. واللافت أن الفرق بين الآلات الموسيقية المصنعة قبل الإصابة وبعدها لا يلحظه سواه.